تصادف اليوم، السادس عشر من ايلول 2005، الذكرى الـ23 لمجزرة صبرا وشاتيلا التي وقعت بين 16 و18 سبتمبر/أيلول 1982، بعد أن سمحت قوات الجيش الإسرائيلي - التي كانت تحتل بيروت آنذاك، تحت القيادة العامة لأرييل شارون بصفته وزير الدفاع ـ لأفراد ميليشيا "الكتائب" بدخول المخيمين؛ وننشر فيما يلي هذا الملف الخاص الذي يتضمن سردا تاريخيا موجزا لفظائع المجزرة، اضافة الى شهادات عيان ادلى بها بعض الناجين من المجزرة، لنذكر بتلك الفظائع التي هزت الضمير الإنساني والعالمي.

 36 ساعة من القتل والصمت

لقد بدأ التحرك لتنفيذ المجزرة في السادسة من مساء الخميس السادس عشر من أيلول/ سبتمبر من عام 1982 عندما أدخل الجيش الإسرائيلي أكثر من 300 من عناصر ميليشيا القوات اللبنانية إلى مخيم صابرا وشاتيلا في عملية قالت إسرائيل لاحقاً إنها كانت ترمي إلى تطهير المخيم من نحو ألفي مقاتل فلسطيني تركهم ياسر عرفات. كانت هذه المقولة عارية تماماً عن الصحة، واستمرت المجزرة حتى الثامنة من صباح السبت الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر، أي أكثر من 36 ساعة تخللها القتل في صبرا وشاتيلا، والصمت المطبق في اسرائيل..

بعد مرور 22 عاما ما زالت المعطيات تتضارب حول عدد ضحايا المجازر الدامية.

وأغلب الظن أن الحصيلة الدقيقة للقتلى من المدنيين الذين أزهقت أرواحهم في تلك المجزرة لن تُعرف أبداً؛ فتقديرات المخابرات العسكرية الإسرائيلية تشير إلى أن ما يتراوح بين 700 و800 شخص قد قُتلوا في صبرا وشاتيلا أثناء المجزرة التي استغرقت اثنتين وستين ساعة، بينما قالت مصادر فلسطينية وغيرها إن عدد القتلى بلغ بضعة آلاف. من بينهم الأطفال والنساء (بما في ذلك الحوامل) والشيوخ؛ الذين تم التمثيل ببعضهم أشنع تمثيل، فطعنوا ونُزعت أحشاؤهم قبل أو بعد قتلهم. كما ذكر الصحفيون الذي وصلوا إلى الموقع إثر المجزرة أنهم شاهدوا أدلة على عمليات إعدام فوري للشبان.

ونسوق هنا جانباً مما رواه أحد الصحفيين المعاصرين الذين شهدوا آثار المجزرة، وهو الصحفي توماس فريدمان من صحيفة "نيويورك تايمز"، حيث قال: "رأيت في الأغلب مجموعات من الشبان في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم، صُفُّوا بمحاذاة الجدران، وقُيِّدوا من أيديهم وأقدامهم، ثم حُصدوا حصداً بوابل من طلقات المدافع الرشاشة بأسلوب عصابات الإجرام المحترفة".

وتؤكد كل الروايات أن مرتكبي هذه المجزرة الغاشمة هم من أعضاء ميليشيا الكتائب، وهي قوة لبنانية ظلت إسرائيل تسلحها وتتحالف تحالفاً وثيقاً معها منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975. ولكن تجدر الإشارة إلى أن أعمال القتل ارتكبت في منطقة خاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي، الذي أنشأ مركزاً أمامياً للقيادة على سطح مبنى متعدد الطوابق يقع على بعد 200 متر جنوب غربي مخيم شاتيلا.

قبل غروب شمس يوم الخميس 16/9/1982 بدأت عملية الاقتحام ، فيما كان جيش الاحتلال الاسرائيلي يحاصر المخيمين ويمنع الدخول إليهما أو الخروج منهما، كما أطلق جنود الاحتلال القنابل المضيئة ليلا لتسهيل مهمة الميليشيات، وقدم الجنود الصهاينة مساعدات لوجستية أخرى لمقاتلي المليشيا المارونية أثناء المذبحة.

بدأ تسرب المعلومات عن المجزرة بعد هروب عدد من الأطفال والنساء إلى مستشفى غزة في مخيم شاتيلا حيث أبلغوا الأطباء بالخبر، بينما وصلت أنباء المذبحة إلى بعض الصحفيين الأجانب صباح الجمعة 17/9/1982 ، وقد استمرت المذبحة حتى ظهر السبت 18/9/1982 3297-رجلا وطفلا وامرأة قتلوا في أربعين ساعة بين 17-18 أيلول سبتمبر 1982 ، وذلك من أصل عشرين ألف نسمة كانوا في المخيم عند بدء المجزرة، وقد وجد بين الجثث أكثر من 136 لبنانيا، منهم 1800 شهيد قتلوا في شوارع المخيمين والأزقة الضيقة، فيما قتل 1097 شهيدا في مستشفى غزة و 400 شهيد آخر في مستشفى عكا.

وفي تعقيبه على المذبحة قال مناحيم بيغن أمام الكنيست يصف رجال المقاومة الفلسطينية "إنهم حيوانات تسير على ساقين اثنين"، فيما أعلن ضابط كتائبي بعد إعلان نبأ المذابح "أن سيوف وبنادق المسيحيين ستلاحق الفلسطينيين في كل مكان ، وسنقضي عليهم نهائيا".

ضابط كتائبي آخر صرح لمراسل صحفي أمريكي "لقد انتظرنا سنوات طويلة لكي نتمكن من اقتحام مخيمات بيروت الغربية، لقد اختارنا "الإسرائيليون" لأننا أفضل منهم في هذا النوع من العمليات "من بيت إلى بيت"، وعندما سأله الصحفي إذا كانوا أخذوا أسرى، أجابه "هذه العمليات ليست من النوع الذي تأخذ فيه أسرى". ونقل راديو لندن عن مراسلة قوله إنه بينما كانت عمليات القتل مستمرة طوق الجنود الاسرائيليون المخيمات بالدبابات وأطلقوا النار على كل شيء يتحرك.

 

تشكيل لجنة كاهان

مع انتشار انباء المجزرة وما تركته من اصداء في عواصم العالم اضطرت اسرائيل إلى إنشاء لجنة للتحقيق في المجزرة برئاسة إسحق كاهان، رئيس المحكمة العليا. وحدد مجلس الوزراء مهمة تلك اللجنة بقوله إن "المسألة التي ستخضع للتحقيق هي جميع الحقائق والعوامل المرتبطة بالأعمال الوحشية التي ارتكبتها وحدة من "القوات اللبنانية" ضد السكان المدنيين في مخيمي صبرا وشاتيلا" فانطلق التحقيق مستندا إلى تحميل "القوات اللبنانية" المسؤولية - من دون غيرها - عن المجزرة، ومستبعدا المشاركة الاسرائيلية فيها، وأيضا مشاركة أطراف أخرى كقوات سعد حداد، ولذا كان متوقعا أن تأتي نتائج التحقيق عن النحو المعلن آنذاك، مكتفيا بتحميل الاسرائيليين مسؤولية "الإهمال" أو "سوء التقدير" !!!

كما أن الكتب والتقارير الصهيونية الأخرى لم تغفل إيراد أسماء مسؤولين كتائبيين وفي "القوات اللبنانية" كإلياس حبيقة وفادي أفرام وآخرين، محملة إياهم مسؤولية التخطيط للمجزرة وإعطاء الأوامر بتنفيذ عمليات القتل، مكتفية بتحميل القادة الصهاينة كارييل شارون وزير الدفاع آنذاك وأمير دروري قائد المنطقة الشمالية، مسؤولية المشاركة في اجتماعات تم فيها البحث في دخول عناصر كتائبية إلى المخيمين ضمن إطار "اشتراك الجانب الكتائبي في عملية السيطرة على بيروت الغربية" ، كما أن تقرير كاهان تضمن ثغرات عدة بهدف التغطية على الدور الصهيوني كطرف مدبر للمجزرة.

 

نتائج تحقيقات لجنة كاهان

في فبراير/شباط 1983، أوردت لجنة التحقيق الإسرائيلية المكلفة بالتحقيق في الأحداث التي وقعت في مخيمي صبرا وشاتيلا، وهي لجنة مستقلة تتألف من ثلاثة أعضاء وتعرف باسم "لجنة كاهان" ـ أوردت اسم وزير الامن الإسرائيلي، في حينه، أرييل شارون، في نتائج تحقيقها باعتباره أحد الأفراد الذين "يتحملون مسؤولية شخصية" عن مجزرة صبرا وشاتيلا.

وقد تناول تقرير لجنة كاهان بالتفصيل الدور المباشر الذي قام به شارون في السماح لأفراد ميليشيا الكتائب بدخول مخيمي صبرا وشاتيلا؛ فقد شهد الجنرال رفائيل إيتان، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، على سبيل المثال، بأن دخول ميليشيا الكتائب المخيمين تم بناءً على اتفاق بينه وبين أرييل شارون. وفي وقت لاحق توجه شارون إلى المقر الرئيسي لميليشيا الكتائب حيث التقى بعدة أشخاص، من بينهم بعض قادة الكتائب. وأصدر مكتب شارون وثيقة تتضمن "تلخيص وزير الدفاع لأحداث الخامس عشر من سبتمبر/أيلول 1982"، جاءت فيها عبارة تقول: "لتنفيذ عملية المخيمين يجب إرسال ميليشيا الكتائب"؛ كما ذكرت هذه الوثيقة أن "قوات الدفاع الإسرائيلي سوف تتولى قيادة القوات في المنطقة".

وفيما يتعلق بما زعمه وزير الامن السابق أرييل شارون في شهادته أمام لجنة التحقيق من أن "أحداً لم يكن يتصور أن ميليشيا الكتائب سوف ترتكب مجزرة في المخيمين"، خلصت لجنة كاهان إلى أنه "من المستحيل تبرير الاستخفاف [أي استخفاف شارون] بخطر وقوع مجزرة"، لأن "المرء لم يكن بحاجة إلى قدرة خارقة على التنبؤ لكي يدرك أن ثمة خطراً حقيقياً لوقوع أعمال القتل، عندما دخل أفراد ميليشيا الكتائب المخيمين دون أن تصحبهم قوات الدفاع [الجيش] الإسرائيلي". بل إن اللجنة ذهبت إلى أبعد من ذلك إذ قالت: "نحن نرى أن أي شخص له صلة بالأحداث في لبنان كان لا بد أن تساوره مخاوف من وقوع مجزرة في المخيمين، إن علم أن قوات الكتائب سوف تدخلهما دون أن تتولى قوات الدفاع الإسرائيلي الإشراف والرقابة عليها بصورة حقيقية وفعالة… وتُضاف إلى هذه الخلفية من العداء الذي تضمره الكتائب للفلسـطينيين [في المخيمين]، الصدمة العمـيقة [لوفاة بشير الجميل مؤخراً]…".

كما خلصت لجنة كاهان إلى أنه:

"
إذا كان وزير الامن لا يظن في واقع الأمر، حين قرر دخول ميليشيا الكتائب إلى المخيمين دون مشاركة قوات الدفاع الإسرائيلي في العملية، أن قراره هذا سوف يؤدي إلى مثل هذه الكارثة التي وقعت، فإن التفسير الوحيد لهذا هو أنه قد تجاهل أي بواعث قلق بشأن ما يُتوقَّع حدوثه لأن المزايا... المراد تحقيقها من وراء دخول الكتائب إلى المخيمين صرفته عن تدبر الأمر كما ينبغي في هذه الحالة".
وأوضحت اللجنة أنه "إذا كان القرار قد اتُّخذ عن علم بأنه ثمة خطراً محتملاً لأن يتعرض سكان [المخيمين] للأذى [من جراء ذلك]، فهناك التزام قائم باعتماد التدابير التي تضمن الإشراف الفعال والمستمر من جانب قوات الدفاع الإسرائيلي على أفعال ميليشيا الكتائب في الموقع، على نحو يدرأ هذا الخطر، أو على الأقل يحد منه بدرجة كبيرة. ولم يصدر وزير الدفاع أي أمر فيما يتعلق باعتماد هذه التدابير".

واختتمت اللجنة تقريرها بقولها: "نحن نرى أن وزير الامن ارتكب خطأً جسيماً حينما تجاهل خطر وقوع أفعال انتقامية وسفك للدماء على أيدي ميليشيات الكتائب ضد سكان المخيمين".
وكانت التوصية النهائية التي خرجت بها لجنة كاهان هي أن يُعفى شارون من منصب وزير الدفاع، وأن ينظر رئيس الوزراء آنذاك في إقالته من وظيفته، إذا اقتضت الضرورة".

 

ننشر فيما يلي مقاطع مختارة من دراسة اعدتها الباحثة الدكتورة بيان نويهض الحوت حول المجزرة، وصدرت هذا العام، عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

ملف صبرا وشاتيلا - مجزرة شاتيلا في لبنان ـ 1982 ـ - بيان نويهض الحوت

موقع المجزرة الشهير بمخيمي صبرا وشاتيلا لا ينطبق، في حقيقة الأمر، على الواقع الجغرافي لمكان المجزرة وحدودها التي وصلت اليها؛ فالتسمية أساساً اختلط فيها شيء من الواقع بشمولية في التعميم.


أولا ـ موقع المجزرة و"حدودها"
---------------------------------
موقع المجزرة الشهير بمخيمي صبرا وشاتيلا لا ينطبق، في حقيقة الأمر، على الواقع الجغرافي لمكان المجزرة وحدودها التي وصلت اليها؛ فالتسمية أساساً اختلط فيها شيء من الواقع بشمولية في التعميم.

أولا ـ موقع المجزرة و"حدودها"
----------------------------------

بدايةً، هناك خمسة أخطاء في التعبير المتداول "مخيما صبرا وشاتيلا". والإشارة اليهما بصيغة الجمع حين يقال "مخيمات صبرا وشاتيلا"، توحي برهبة أكثر، وبأهمية أكبر، غير أنها لا تنطبق على الواقع. فما هي الأخطاء الخمسة؟ وما هو الواقع؟ وما هي حدود المجزرة؟

الخطأ الأول

هو القول بوجود مخيمين للفلسطينيين في هذا الجزء من مدينة بيروت، ولا أقل منه القول بوجود مخيمات. الحقيقة أنه لا يوجد في هذه المنطقة مخيمات، ولا يوجد حتى مخيمان. هناك مخيم فلسطيني واحد هو مخيم شاتيلا. أما القول مخيم صبرا فهذا ليس صحيحاً، إذ لا يوجد هناك إطلاقاً مخيم اسمه مخيم صبرا؛ فالمنطقة السكنية المعروفة بصبرا هي منطقة لبنانية شعبية، يخترقها شارع تجاري طويل، وهي المنطقة التي تمتد من الطريق الجديدة شمالاً الى شاتيلا جنوباً. ويسكن صبرا لبنانيون وفلسطينيون وسواهم، لكنها قطعاً ليست مخيماً فلسطينياً، ولا منطقة فلسطينية.

الخطأ الثاني

هو الاكتفاء، أحياناً بذكر مخيم شاتيلا مع تجاهل الأحياء اللبنانية المتعددة المجاورة له، والتي كانت مسرحاً للمجزرة. ذلك بأن مخيم شاتيلا لا يحتل في حد ذاته سوى منطقة محدودة تبلغ مساحتها نحو خمسة عشر ألف متر مربع، لا أكثر. ولا يشكل المخيم أكثر من عُشر المنطقة الكبيرة المحيطة به، والتي باتت تعرف بمنطقة شاتيلا، استناداً الى تسمية الكل باسم الجزء. وتشمل المنطقة المجاورة لمخيم شاتيلا أحياء شعبية متعددة، أخذت تحيط به بمرور الزمن، وهي حي فرحات وحي المقداد وحرش ثابت جنوباً، وشارع شاتيلا الرئيسي مع المنطقة خلف المدينة الرياضية غرباً، وحي عرسال والحي الغربي في الجنوب الغربي. لذلك فالقول إن المجزرة استهدفت مخيم شاتيلا وحده قول مخالف للواقع، فهي قد استهدفت المخيم الفلسطيني بالتأكيد، لكنها طالت أيضاً الأحياء المجاورة له جميعها، بما فيها الجزء المحاذي من صبرا شمالاً حتى مستشفى غزة.

الخطأ الثالث

هو الإيحاء بأن سكان "منطقة المجزرة" كلهم فلسطينيون، وبالتالي فهم قطعاً ككل اللاجئين في مناطق المخيمات "إرهابيون"، أو يختبئ بينهم "الإرهابيون". وهذا الخطأ تدحضه الجغرافيا وجنسيات السكان الذين وحّد الفقر بينهم جميعاً في مناطق شعبية كهذه. فمنطقة شاتيلا، أو "شاتيلا الكبرى" إن جاز التعبير، ومنطقة صبرا، يقدر سكانهما معاً شبه مناصفة بين الفلسطينيين واللبنانيين، إضافة الى سوريين ومصريين وأردنيين، وسواهم.

الخطأ الرابع

هو الإيحاء بأن منطقة صبرا ومنطقة شاتيلا بأسرهما كانتا مسرحاً للمجزرة، أي أن الهدف الرئيسي من استباحة المنطقة كلها قد تحقق، بينما المجزرة في منطقة شاتيلا لم تصل حقيقة إلا الى شارع شاتيلا الرئيسي خارج حدود المخيم، والى الأحياء المحيطة بالمخيم والتي باتت تعتبر مجازاً منطقة شاتيلا، وهي أحياء الحرش وفرحات والمقداد وعرسال؛ بينما لم تصل المجزرة قط الى قلب مخيم شاتيلا، ولم تتعد أكثر من حدوده الخارجية من جهة الغرب. أما بالنسبة الى منطقة صبرا، فالمجزرة لم تصل اليها إلا صباح اليوم الثالث، ولم تصل أساساً إلا الى مستشفى غزة والساحة الرئيسية لصبرا وشارع مأوى العجزة، أي الجزء الجنوبي من منطقة صبرا، بينما بقي شارع صبرا الرئيسي من الساحة فشمالاً، بمنأى عن المجزرة؛ وهذا هو الجزء الأكبر من صبرا.

الخطأ الخامس

هو تجاهل منطقة سكنية كانت من المناطق الأولى التي تعرضت للمجزرة، وهي منطقة بئر حسن التي تقع فيها السفارة الكويتية ومستشفى عكا. وهذه المنطقة تواجه منطقة شاتيلا من جهة الجنوب، ويفصل بينهما شارع رئيسي هو الشارع الواصل بين مستديرة المطار شرقاً ومستديرة السفارة الكويتية غرباً. نخلص من هذا كله الى أن المجزرة شملت منطقة شاتيلا بكل أحيائها، ولكن مع استثناء مخيم شاتيلا، وشملت من منطقة صبرا قسمها الجنوبي المحاذي لمنطقة شاتيلا لا أكثر، كما شملت جزءاً من منطقة بئر حسن.
مع ذلك، يبقى اسم مكان المجزرة "صبرا وشاتيلا" هو السائد، كونه الاسم الشائع. كذلك يبقى اسم المكان "مخيم صبرا وشاتيلا" مستعملاً أيضاً لأن الهدف الرئيسي كان قتل الفلسطينيين والوصول الى قلب المخيم.

لكن على الرغم من عدم التمكن من تحقيق هذا الهدف جغرافياً، فهو قد تحقق عملياً بقتل الفلسطينيين القاطنين في كل تلك الأحياء المجاورة له، وكذلك بقتل أولئك الفلسطينيين من سكان المخيم الذين التجأوا الى الملاجئ، وأولئك الذين ساقوهم على الطرقات. ".

ثانيا – الدور الإسرائيلي التمهيدي لدخول الميليشيات
----------------------------------------------------------
من الواضح أن المجزرة ما كان يمكن أن تحدث لولا التمهيد الإسرائيلي لها، ويمكن حصر عناصر هذا التمهيد بما يلي:

محاصرة مخيم شاتيلا ومنطقة صبرا وشاتيلا كلها بحيث يصبح الخروج والدخول مرهوناً بالإرادة الاسرائيلية. وقد منع الاسرائيليون الناس فعلاً من المغادرة. والسؤال: لماذا منع النساء والأطفال إن كان الهدف هو البحث عن "المخربين المسلحين" كما قالوا؟

-
إشاعة جو من طمأنينة كاذبة وخادعة بين سكان منطقة صبرا وشاتيلا من فلسطينيين ولبنانيين. وقد بدا أن بعض الجنود الإسرائيليين لم يكن حقيقة يعلم شيئاً عن الحدث القادم المجهول، فكان قول هذا البعض للناس أن يعودوا الى بيوتهم لا يحمل معنى إرسالهم الى الموت، لكن هذا البعض يمثل الأقلية بين الجنود الإسرائيليين. والدليل أن أقوال الآخرين كانت تتضمن معرفة بما سيجري. ومن هنا، كان يهم الذين يعرفون ما سيجري تجميع السكان وحصرهم داخل المنطقة المحاصرة؛ أي منطقة صبرا وشاتيلا.

الإيحاء بأن المطلوب هو تسليم السلاح فقط، فمن يسلّم سلاحه يسلم، وفي إمكانه العودة الى بيته مطمئناً. هذا ما وزعوه بالمناشير وما أذاعوه بمكبرات الصوت.

القصف المركز من أجل حمل السكان على الهروب الى الملاجئ التي تعتبر الأمكنة المثالية لارتكاب مجزرة. فكيف يقوم بمثل هذا القصف من يدعي أنه جاء للحماية؟ وهل بالقصف يقتل "المخربون" وحدهم؟

التنسيق بين الفريقين الإسرائيلي والميليشيوي اللبناني قبل المجزرة. ويتضح هذا من خلال الأسئلة التي طرحها على السكان "أغراب"، في سيارات "غريبة"، عن مواقع الملاجئ، كما يتضح من خلال القصف الإسرائيلي الذي لم ينقطع مجبراً السكان على التجمع في الملاجئ (وقد ثبت فيما بعد أن "نزلاء" الملاجئ هم الذين كانوا عرضة للقتل الجماعي، كما كانوا هم أول من تعرض للقتل).

انسحاب الجيش الاسرائيلي من الأماكن القريبة جداً من منطقة صبرا وشاتيلا، وخصوصاً في محيط مستشفى عكا. وقد اتضح أن ذاك الانسحاب لم يكن إلا انسحاباً مبرمجاً من أجل فسح المجال للميليشيات المهاجمة كي تدخل من تلك الجهة وتتحمل المسؤولية بمفردها. وهكذا تتكامل مسرحية الاقتحام من دون أن تتحمل القوات الاسرائيلية أي مسؤولية، وكأنها لا رأت ولا سمعت!! وبالتالي فليس لها ضلع مباشر!!

توقّفْ القصف المركز من قبل المدفعية الاسرائيلية وتوقف القنص قبيل دخول القتلة، والبدء بإنارة المنطقة مع حلول الظلام، بحيث تحول الليل الى نهار. السماح لبضع مئات من الميليشيات المسلحة بدخول المخيم والمنطقة بحثاً عن الفين وخمسمئة مقاتل مسلح. أي عقل يقبل ذلك؟ إسرائيل لم تتنصل من معرفتها بدخول القوات اللبنانية بحثاً عن المقاتلين أو "المخربين" كما تدعوهم، وكما تدّعي. لكن، لو كانت إسرائيل تعتقد حقاً وجود ألفين وخمسمئة مقاتل لكان يلزم للقضاء عليهم أو أسرهم أو قتلهم عدد أكثر جداً من بضع مئات لا تتعدى ستمئة عنصر وفقاً لأبعد التقديرات، في ذلك اليوم الأول.

 الخميس 16 أيلول / سبتمبر 1982

تختلف الشهادات بشأن ساعة البدء بالمجزرة؛ وهذا أمر طبيعي لأن كل شاهد (أو شاهدة) يروي ما رآه في شارعه أو حيه. بعض السكان رأى الميليشيات المهاجمة وهي تتجمع وتستعد للهجوم، بينما فوجئ بها آخرون داخل بيوتهم. وهكذا تتراوح ساعة الدخول، وفقاً لعشرات الشهادات، ما بين الساعة الخامسة والساعة السادسة والدقيقة الثلاثين من مساء الخميس في السادس عشر من أيلول / سبتمبر، لكنها تتفق كلها على أن الساعة الأولى الرهيبة تزامنت مع الغروب.

المداخل التي استُعملت في اليوم الأول متعددة، تقع كلها من الجهتين الجنوبية والغربية. فمن الجهة الجنوبية المداخل الواقعة في شارع السفارة الكويتية، الممتد بين مستديرة المطار ومستديرة السفارة الكويتية، والفاصل ما بين منطقة بئر حسن والمنطقة الجنوبية من "شاتيلا الكبرى". ومن الجهة الغربية المداخل الواقعة في الشارع الخلفي للمدينة الرياضية والفاصل بينها وبين المنطقة الغربية من "شاتيلا الكبرى"؛ كل المداخل من هاتين الجهتين شوارع ضيقة أو زواريب، باستثناء شارع شاتيلا الرئيسي المتقاطع عمودياً مع منتصف شارع السفارة الكويتية، والممتد شمالاً حتى صبرا.

يتضمن هذا الفصل كيفية دخول الميليشيات المسلحة، وكيفية قيام أفرادها منذ الساعات الأولى بالتعذيب، وبقتل السكان المدنيين الأبرياء من دون أي تمييز بين هويات السكان أو أعمارهم أو أجناسهم.

ويتضمن محاولات التصدي المحدودة من قبل مقاتل واحد تصدر بمفرده، ومن قبل مجموعة من الشباب كانت تتجمع طوال النهار في حي الدوخي. أما التصدي للإسرائيليين في كل من حي فرحات وحي الحرش فكان انتهى قبل دخول الميليشيات المهاجمة.

كان عدد الشهادات التي تحدثت عن اليوم الأول كثيراً، وكان عدد الروايات والمآسي الشخصية بالتالي كثيراً.

اخترت من شهادت اليوم الأول، أو بالأحرى من شهادات الساعات الأولى، أربعاً وعشرين رواية يمكن من خلالها مجتمعة معرفة ما جرى في اليوم الأول، أو بالأحرى في الليلة الأولى.

بعض هذه الروايات ينتهي في الليلة نفسها، أو في الساعة نفسها، أو في الدقيقة نفسها، وبعضها الآخر يحتاج الى تكملة، أعود اليها في الفصول التالية من هذا القسم، أي مع أحداث اليوم الثاني، أو اليوم الثالث، أو في مرحلة البحث عن الضحايا. وقد لا أجد تكملة لروايات معينة، ذلك بأن من طبيعة روايات المجازر أن يبقى عدد منها بلا نهايات.

كانت قاعدة الاختيار من الروايات، سواء من روايات اليوم الأول أو الأيام التي تلته، التنوع في التجربة، والتكامل بحيث لا تتشابه الروايات تشابهاً تاماً. وهذا يعني أنني حذفت الكثير من الروايات تجنباً للوقوع في التكرار؛ فالهدف الرئيسي هو إعطاء الصورة الشاملة المتكاملة، لا مجرد السرد، ولا مجرد تجميع الروايات.

أما الأسماء الأولى للشهود، فبعضها أسماء حقيقية، وبعضها الآخر ليس كذلك، بناء على رغبة المتحدث.

 صبرا وشاتيلا بين فجر الخميس وغروبه

شاهد كثير من السكان سيارات تجوب المنطقة منذ صباح الخميس، ويسأن من فيها أسئلة مريبة عن الملاجئ ومواقعها. ويذهب بعض السكان الى حد التأكيد أنه كان رأى سيارات غريبة عن المنطقة يوم الاربعاء أيضاً.

تروي زوجة لبنانية جنوبية شابة من قلعة الشقيف، يقع بيتها على خط تماس مع مخيم شاتيلا من جهة الشرق، أنه كان هناك حاجز إسرائيلي قرب قصر صبري حمادة على الطريق العام، وأنها شاهدت في الساعة الثالثة من بعد ظهر الخميس ملثمين مسلحين يمرون بالسيارات قرب بيتها، ولم تتأكد من أنهم فدائيون أو مهاجمون. وما حال بينها وبين التأكد أنها كانت تسمع، كغيرها، لعلعة الرصاص في الخارج، فخافت إن هي تركت المنزل وحاولت سؤالهم أن تتعرض للقنص. كان على الطاول أمامها عدد من المناشير التي رمتها إسرائيل بالطائرات في اليومين السابقين والتقطها صغار العائلة، وهي مناشير تدعو أهالي صبرا وشاتيلا بالذات الى عدم المقاومة: "سلّموا بتسلموا". وأكملت الزوجة الشابة حديثها قائلة أنه صحيح أنها لم تكن متأكدة من هوية المسلحين الملثمين، ومن العلاقة بين المناشير الداعية الى التسليم وبين تجول هؤلاء المسلحين الملثمين، لكنها كانت متأكدة من حدوث مصيبة ما، فلا يعقل أن يكون من المصادفات انقطاع التيار الكهربائي، وفقدان الخبز نهائياً في ذلك اليوم، والقصف المتواصل.

شاب لبناني آخر يسكن في حرش ثابت قال أنه شاهد صباح الخميس سيارة واحدة لا غير تكثر من التجول، وكان من فيها من الرجال يعتمرون كوفيات سوداً، ويلبسون بدلات خضراً، لكنهم لم يكلموه وإنما كلموا غيره، وسمعهم يسألونهم عن الملاجئ.

أوضحت امرأة فلسطينية مشهد سيارة أخرى، بدقة أكثر، فقالت:

كل الناس بتحكي عن سيارات غريبة يوم الخميس، لكن أنا شفت سيارة يوم الاربعا بنفس اليوم اللي اندفن فيه الشيخ بشير. أنا شفت سيارة غريبة ما بعرف شو نوعها، بس لونها بيضا، وكان فيها أشخاص اتنين لابسين مدني طبيعي ويسألوا وين في ملاجئ. وتعجبت لما شفت ناس عم بترد عليهم وبتقولهم وبتأشّر هناك في ملجأ. يعني أنا تأكدت إنّو في عملية استكشاف للمنطقة . وأنا بعدين سمعت متل هالكلام من ستات تانيين. كتير ناس كانت تقول بعدين عن سيارات متلها يوم الخميس تبرم وتسأل، وتبرم وتسأل. تسأل عن الملاجئ. لكن ما حدا استشبه بالسيارة اللي شفناها يوم الاربعا ما عدا زوجي، كان ملاحظ عليها وقلّي هاي السياة عم تتردد أكتر من مرة عالمنطقة، هاي سيارة مشبوهة. وكان زوجي مطّلع وفهمان.

فلسطينية أخرى، زوجة فدائي، تسكن في شاتيلا بالقرب من روضة الشهيد غسان كنفاني، قالت:

أنا شفت عند الضهر يوم الخميس مسلحين ملتّمين لافين حطات على روسهم، وهاطين إشارات فدائية، يمكن حتى يطمنوا الناس وما حدا يعرف مين هنّي. لكن أنا استغربت إنو هدول صاروا يروحوا وييجوا من قدّام بيتنا أربع خمس مرات. ولما استغشيت بمشيتهم وحذرهم رحت حكيت معهم. تلات مرات حيكت معهم. ما ردوا ولا مرة عليّ ولا حكوا أبداً، ولا شفتهم حكوا مع حدا. بس تطلّعوا فيّ وضلّوا رايحين. وضلّوا باستمرار يروحوا وييجوا في الحي. أنا خوّفوني هدول أكتر من القصف الاسرائيلي.

تؤكد الشاهددة أن أهل الحي كلهم يعرفون زوجها ويعرفونها، ولو كان هؤلاء الملثمون مقاتلين حقاً من الذين كانوا يترددون عادة على الحي لما كان من الممكن ألا يكلموها. أما الصمت المطبق من جانبهم فتفسره الشاهدة بأنهم حتماً لم يريدوا كشف لهجاتهم وأصواتهم ونياتهم. وربما كانوا مخبرين.

في صبرا كان سلوك بعض الرجال الملثمين مختلفاً. فقد ترجل هؤلاء أكثر من مرة من السيارة واشتروا "سندويشات" وبيبسي كولا. هذا ما تقوله فتاة تسكن في صبرا، مؤكدة أن عدداً من الجيران أيضاً شاهد يوم الخميس سيارة عسكرية فيها ملثمون، تجوب الطرقات أكثر من مرة، حتى شك السكان في أن من بداخلها جواسيس.

قال شاهد أنه رأى في المناطق المحيطة بشاتيلا، في منطقة بئر حسن وقرب السفارة الكويتية وثكنة هنري شهاب، سيارات جيب صغيرة وكبيرة تتجول منذ العاشرة والدقيقة الثلاثين صباحاً، وقد كتب عليها بوضوح "القوات اللبنانية"، كما ظهرت عليها أرزة الكتائب، لكن هذه السيارات بالذات لم تقترب من منطقة شاتيلا. يعلق الشاهد بقوله إن مهمة هذه السيارات لم تكن الاستكشاف، وإنما كانت أشبه بإعلان في شأن ما سيجري. هذا ما قدره هو ورفاقه فيما بعد، لكن لم يكن في إمكانهم معرفته في حينه.

هؤلاء الذين انزعجوا من السيارات الباحثة عن أماكن الملاجئ داخل شاتيلا الكبرى ما كانوا سوى الذين تنبهوا لها وشاهدوها. أما المشكلة التي قضّت مضاجع السكان جميعاً فكانت فقدان الكثير من المواد الغذائية.

صباح الخميس، كانت شوارع المخيم ومنطقة صبرا وشاتيلا كلها تغص بالناس، وكان على الوجوه حيرة، وخصوصاً بعد اكتشاف الجميع أن الخبز مفقود، وأن التيار الكهربائي مقطوع أيضاً. ومع الحصار الاسرائيلي للمنطقة، ومع الأنباء عن دخول الجيش الاسرائيلي "بيروت الغربية" من ستة محاور، ومع القصف المدفعي الاسرائيلي المتقطع للمنطقة، ومع التراشق بالرشاشات بين بعض الشباب الفلسطينيين واللبنانيين من أهل المنطقة وبين الإسرائيليين، لم يتجرأ معظم الناس على مغادرة منطقة صبرا وشاتيلا المحاصرة، حتى بحثاً عن الخبز.

مع تقدم النهار، أخذ الجيش الاسرائيلي يقصف مخيم شاتيلا ومحيطه قصفاً مركزاً. وكان طبيعياً أن يهرب الناس الى الملاجئ حتى ضاقت بمن فيها. ولم يجرؤ أحد على العودة الى بيته لجلب الطعام للصغار إلا حين كان القصف يتوقف نسبياً.

بعيد الساعة الثالثة بعد الظهر، اشتد القصف على مدخل المخيم الجنوبي من مرابض المدفعية الاسرائيلية القائمة على كثبان رملية بالقرب من السفارة الكويتية؛ وهو المدخل نفسه الذي ستبدأ عنده المجرزة بعد ساعات قليلة. أما قبيل الساعة الخامسة، فقد اشتد القصف من الآليات الإسرائيلية التي تربض بالقرب من المدينة الرياضية على الطريق الرئيسي بين ساحة شاتيلا وساحة صبرا، حتى لم يعد هناك متسع في الملاجئ للمزيد، ولا في جامع شاتيلا الذي امتلأ بالنساء والأطفال ظناً أن الأماكن الدينية آمنة. ومما زاد في هلع السكان احتراق بناية مخللاتي بالقرب من الجامع؛ وهي من المباني القليلة المرتفعة، إذ تتألف من خمس طبقات.

كان من اللافت للنظر انقسام الرأي ضمن العائلة الواحدة. فقد كان عدد من أفرادها يهرول الى الملجأ الأقرب، بينما يرفض الباقي مغادرة البيت، إما التصور لا مبرر له بأن القصف لن يطول، وإما كرهاً لوضعية الملاجئ التي تكون مكتظة بالبشر. هذا ما دعا بعضهم الى البقاء في البيوت مفضلاً انتظار المجهول. لكن لم يكن أحد ليتصور أن المجهول مجزرة. وقد أدت الانقسامات في الرأي ضمن العائلة الواحدة الى أن يجابه أفرادها أكثر من مصير.

أما العائلات السعيدة الحظ فهي التي تمكن أفرادها جميعاً من مغادرة المنطقة. وقد غادرها معظم هذه العائلات من الجهة الشمالية في اتجاه جامعة بيروت العربية وكورنيش المزرعة، أو من الجهة الشرقية ليس بعيداً عن قصر صبري حمادة. وأما الأماكن المحدودة التي كانت توحي بأمان نسبي في منطقة صبرا وشاتيلا، فهي المستشفيات الثلاثة التي تشكل مواقعها زوايا أضلاع مثلث يحيط بالمنطقة، وهي مستشفيات عكا وغزة ومأوى العجزة، وقد غصت هذه بالوافدين من العائلات ومن الشباب.

تروي ممرضة فلسطينية طبيعة الرعب الذي سيطر على صبرا وشاتيلا في تلك الساعات التي سبقت المجزرة:

الخميس حوالي الساعة 2، الخميس الضهر اشتد القصف كتير من الساعة 2 وبالرايح. صار القصف كتير كتير، نفس المكان الواحد تنزل القذايف عليه مرات ورا بعضها، والعالم كلها راحت على الملاجئ. ما ضلّش في حدا بالبيوت. يعني الناس اللي ضلّت بالبيوت ما في ملاجئ جنبها.

أما الشاب الفلسطيني الذي قال له الإسرائيلي مع رفاقه: "بس نهار الجمعة خدوا اخواتكم وأهلكم"، والذي ذهب لإيصال صديق جريح الى المستشفى عند غروب شم الخميس، فقال أنه فوجئ بانسحاب الجيش الاسرائيلي من مستديرة المطار، وكذلك بانسحاب الاسرائيليين الذين كانوا بالقرب من مستشفى عكا في بئر حسن. ولم يفهم قط حينئذ لماذا انسحبوا فجأة، لكنه فهم بعد ذلك أنهم أرادوا إخلاء الطريق للميليشيات اللبنانية الآتية من ناحية المطار لدخول شاتيلا من جهة بئر حسن.

حدثان لا تنساهما ذاكرة اهل المخيم أبداً في الساعات الأخيرة ما قبل المجزرة، وقد كانت نتيجة كل من الحدثين مأساوية، إذ عرف فيما بعد أن كثيرين من الذين شاركوا فيهما قتلوا أو خطفوا، وذلك على الرغم من أن كلاً من الحدثين انطلق من أجل السلام وحقناً للدماء.

حين يتحدث سكان شاتيلا عن الحدث الأول، فهم يطلقون عليه "وفد السلام". أما حين يتحدثون عن الحدث الثاني، فهم يطلقون عليه "مظاهرة النساء"، أو "مظاهرة النسوان" في الدارج. وهذه، أدناه، ذكريات السكان عن الحدثين

 

الميليشيات المسلحة على أبواب شاتيلا

روت لي سيدة يقع بيتها على طريق الجبل في ضواحي بلدة عرمون، أنها شاهدت بعد ظهر الخميس أرتالاً من السيارات والآليات آتية من كفرشيما، من مفرق التينول، في اتجاه المطار، وبينها دبابات ومجنزرات، وبعد كل خمس آليات تقريباً كانت ترى آلية إسرائيلية.

وقد أخبرها شقيقها مساء اليوم نفسه أن تلك الآليات توقفت فعلاً عند المطار ومستديرة المطار، ثم غادرت قبل المغيب. ولما كان بيت السيدة واقعاً على سفح الجبل، فقد كانت الأنوار الكاشفة التي ملأت سماء بيروت مصدر تساؤل طوال الليل: ماذا يجري؟ ولم كل هذه الأنوار؟ كما كان ثمة تساؤل آخر: ما مهمة هؤلاء المسلحين الذين قدرت عددهم هي وزوجها بما بين ألف وألف وخمسمائة مسلح؟

السيدة الشاهدة أعلاه شاعرة لبنانية مثقفة لا تعرف المبالغات، وقد كان حديثها معي مصادفة بعد الحدث بنحو أربعة أشهر. لكن لما كان فيما تقوله معلومات غريبة بالنسبة إلي، فلم أكد أصدقها.

أيعقل أن يكون ما جرى على هذ المستوى من التنسيق والتحضير ولا شيء ينشر أو يذاع في بيروت؟ حتى ذلك الحين لم يكن سهلاً التوصل الى الصحافة الأجنبية، لكنني حين تمكنت من الاطلاع على ما نشرته تلك الصحافة بشأن المجزرة، اكتشفت أن ما قالته لي صديقتي الشاعرة، ساكنة عرمون، قد نشر ما يماثله في الكثير من الصحف الصادرة خارج لبنان.

تحدث سكان بلدة الشويفات مع لورين جنكينز، مراسل جريدة "واشنطن بوست"، فقالوا له أنهم في الساعة الثالثة من بعد الخميس شاهدوا قافلة شاحنات وجيبات عليها شارات ميليشيا سعد حداد تمر بالشويفات، ثم تسلك طريقاً يسيطر عليه الجيش الإسرائيلي، ويؤدي الى الطرف الجنوبي من مدرج مطار بيروت الغربي، الموازي للخط الساحلي، حيث توجد مواقع عسكرية إسرائيلية؛ كذلك كانت قافلة أخرى من ناقلات الجند تصل، في الوقت نفسه، من "بيروت الشرقية" ثم تتحول الى الطريق نفسه المؤدي الى المطار. وعلى طول الطريق كانت تشاهَد شارة القوات اللبنانية (وهي مثلث في وسطه دائرة مع الحرفين M.P.) ، كما كان يشاهَد الى جانب الشارة سهم يوضح اتجاه السير المطلوب.

بعد مرور ساعتين على مشاهدة القافلتين في الجهة الجنوبية من المطار، تحرك مئات من المسلحين الذين يرتدون زي الميليشيا اللبنانية المسيحية من المطار في اتجاه بئر حسن، بالقرب من مستديرة السفارة الكويتية، ومن ثم في اتجاه البحر حيث اتخذوا من مبنى كلية الإدارة والأعمال، الواقع بالقرب من المستديرة نفسها، مقراً لهم.

توافقت رواية توماس فريدمان، مراسل جريدة "نيويورك تايمز"، مع رواية لورين جنكينز أعلاه، بشأن وصول الميليشيات الى المطار. وكانت مصادر الكاتبين واحدة، وهي شهادات سكان بلدة الشويفات. لكن الثاني اختلف عن الأول في العدد الذي توجه من المطار نحو مخيم شاتيلا، فبينما قال الأول إنهم كانوا نحو ألف ومئتي عنصر بزي القوات اللبنانية، وقد توجهوا كلهم نحو المنطقة المطلوبة، قال الثاني إنهم حتماً لم يذهبوا كلهم، كما أضاف أن مصادر في الجيش اللبناني أيدت أقوال السكان.
الرقم الأكثر تداولاً في المصادر المتعددة كان نحو ستمئة عنصر؛ فهذا هو العدد التقريبي للذين دخلوا شاتيلا مع غروب شمس نهار الخميس.

أما سكان بئر حسن، وهي المنطقة التي تقع قبالة شاتيلا، فقد قالوا للكاتب أمنون كابليوك أنهم شاهدوا في الساعة الرابعة بعد الظهر خمس وعشرين آلية عسكرية (جيب عسكري) مملوءة بالمسلحين متجهة صوب السفارة الكويتية. وهذا يعني أنها كانت ذاهبة في اتجاه مقر قيادة القوات، للتجمع، ثم للاقتحام، لأن دخول المخيمات لم يبدأ في الساعة الرابعة.

أما الصحافي روبرت فيسك، فقد اعتمد على شهادة اثنين من الضباط اللبنانيين تحدثا معه في غرفة عمليات للجيش اللبناني قريبة من المكان، وهما يحملان الخرائط، وقد طلبا ألا يذكر اسم أي منهما أو رتبته، لأنه يجب ألا يتحدثا معه بصورة رسمية، لكنهما رغبا في التحدث اليه لأنه، كما قال لن أحدهما، ". . . يجدر بك أن تعرف ماذا جرى هنا".

أشار الضابط الثاني من خلال النافذة في اتجاه المطار، وقال: "رأيت مئات الرجال والشاحنات تأتي من هناك يوم الخميس في الأسبوع الماضي. كان ذلك تماماً قبل أن تدخل الميليشيات المخيم".

وأكد الأول كلام الثاني قائلاً أن عدداً كبيراً منهم كان يتجمع بالقرب من مقر القيادة الإسرائيلية. وأضاف الثاني أنهم كانوا يقفون هناك مع أسلحتهم، وكانت شارات القوات اللبنانية ظاهرة على آلياتهم، ثم استدرك قائلاً أنه يمكن لأي كان أن يدهن الشارة على جيب. ثم ختم كلامه بأنه شاهد سيارتي جيب تابعتين للجيش الإسرائيلي تقودان عناصر الميليشيا لدخول المخيم.

لم يكن مقر الميليشيات اللبنانية المسلحة بعيداً عن مقر القيادة الاسرائيلية التي كان سبق أن تمركزت بالقرب من مستديرة السفارة الكويتية من الجهة الغربية، حيث احتلت مجمعاً من ثلاثة مبان متجاورة متشابهة، هي أساساً مساكن لضباط لبنانيين أرغمتهم ظروف الحرب على مغادرتها مع عائلاتهم. وتقع هذه المباني الثلاثة قبالة المدينة الرياضية، وعلى وجه الدقة أكثر، قبالة نادي الفروسية سابقاً (المعروف بنادي التورف / Turf club )، أما الطريق الفاصل بينهما فكان يعرف ببولفار كميل شمعون، أو بولفار المدينة الرياضية.

كان موقع مبنى المقر الإسرائيلي في أقرب نقطة مرتفعة يمكن منها مراقبة ما يجري في منطقة المخيم، وخصوصاً أن الأرض كما ذكرنا سابقاً – تأخذ في الانحدار بالتدريج من على التلة الواقعة خلف المدينة الرياضية حتى يصل الانحدار الى مداه داخل مخيم شاتيلا وحرش ثابت. وفضلاً عن هذا، فمبنى المقر نفسه يتألف من ست طبقات، الأمر الذي يجعل الواقف على السطح يشاهد منطقة المخيم كما يشاهد لوحة "بانوراما"، فكيف يكون الحال مع النواظير الحديثة، ومع آلات التصوير؟

في الساعة السادسة والدقيقة الثلاثين تقريباً، بدأت الناس تشاهد أرتالاً من الجنود من دون أن تتمكن من أن تحدد هويتها بادئ الأمر. وما كاد الظلام يحل حتى بدأت القنابل المضيئة تنهمر فوق المنطقة. وعلا الصراخ خوفاً وهلعاً. كانت المجزرة قد ابتدأت.

لم تدخل عناصر القوات المسلحة "شاتيلا الكبرى" مع غروب شمس ذلك الخميس من مدخل واحد، بل من مداخل وزواريب متعددة، هي التالية:

جهة الغرب من المدينة الرياضية، حيث نزل افراد الميليشيات عن التلة التي تقع خلف المدينة، والمقابلة للمخيم، فهبطوا على حي عرسال والحي الغربي.

جهة الجنوب الغربي، أي جهة السفارة الكويتية، حيث دخلوا بالقرب من مدرسة الإنعاش، ومن التلة أيضاً، وهبطوا على حي عرسال.

جهة الجنوب، أي جهة منطقة بئر حسن، حيث توقفت مجموعات منهم في بئر حسن بينما راحت مجموعات أخرى تجتاز شارع السفارة (الشارع بين مستديرة المطار والسفارة الكويتية) فتدخل المنطقة المطلوبة من عدة مداخل، وقد كان أولها حرش ثابت وحي المقداد.

أما جهة الشرق، فلم يتمكنوا من الدخول منها حتى لو كانوا خططوا لذلك، وربما كان السبب وقوع انفجار كبير في مستودع للسلاح بالقرب من أرض جلول.

يبقى هناك جهة أخيرة للمنطقة هي جهة الشمال من شارع صبرا الرئيسي، لكنهم لم يحاولوا قط الدخول منها، للصعوبة الفائقة في ذلك بسبب الواقع الجغرافي والديموغرافي. فالداخل منها لا يأتي مباشرة من طريق عام كبولفار المطار أو بولفار كميل شمعون، وإنما عليه أن يجتاز عمق الأحياء البيروتية الكثيفة السكان، كالطريق الجديدة وحي الفاكهاني.

مع ذلك، من الممكن أن تكون هذه الجهة مدرجة في خريطة الاقتحام. فالدبابات الإسرائيلية كانت طوال يوم الخميس تحاول التقدم من بولفار المدينة الرياضية في اتجاه حي الفاكهاني، وقد تصدى لها الشباب بالسلاح الفردي والآر. بي. جي.، وكانت النقطة الأخيرة لتقدمها تقع بالقرب من مكتبة الرازي، كما مر معنا في الفصل الثاني. لكن لما كان التوغل في عمق الأحياء السكنية في غير مصلحة القوات الإسرائيلية المحتلة، فقد اكتفت بتحقيق هدف إحكام الطوق حول المنطقة كلها، أي صبرا وشاتيلا والفاكهاني، غير أن من الواضح أنه حتى هذا الهدف لم يتحقق تماماً، إذ بقي هناك ثغرة طوال الأيام الدامية قائمة من جهة الطريق الجديدة الملاصقة لصبرا؛ وهكذا بقيت جهة الشمال من صبرا باباً لهروب الناس.

 ثالثاً – شهادات عن اقتحام المداخل الجنوبية والغربية

كيف دخلوا؟
أو . . . كيف اقتحموا؟

كان دخولهم منطقة ما دخول الحذِر. فكانوا لا يعرفون تماماً أين هم، وخصوصاً وهم لا يزالون خارج منطقة شاتيلا، إذ سوف يرد في بعض الشهادات أنهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن منطقة بئر حسن المواجهة لشاتيلا الكبرى. كما أنه لم تكن لديهم أوامر واضحة في شأن ما عليهم تماماً أن يفعلوا؛ وهذا بينما نجد أنهم في مناطق أخرى كانوا يعرفون تماماً ما عليهم فعله. فقد ابتدأوا بقتل العائلات من دون أي تمييز بين كبير أو صغير، بين لبناني أو فلسطيني.

الروايات الست أدناه تخبنرا عن كيفية دخول أو اقتحام منطقة بئر حسن، وشارع ثكنة هنري شهاب، وكلاهما خارج "شاتيلا الكبرى"، كذلك مناطق الحي الغربي وحي عرسال وراء المدينة الرياضية، وحي المقداد وحي فرحات من منطقة الحرش المواجهة لبئر حسن؛ وهذه كلها تقع داخل "شاتيلا الكبرى".
أما الزمان فيبدأ مع الساعة الأولى من الدخول أو الاقتحام.

 الرواية الأولى

شهود على دخولهم منطقة بئر حسن

كانت أم أيمن في منطقة بئر حسن "تحمم" طفلها البالغ من العمر أربعة أعوام، وتنادي على طفلها الصغير ابن العامين ليبقى قريباً منها. وبينما هي "تحمم" طفلها قرعت عمته الباب لتدعوهم الى بيتها في البناء المجاور، وهو بناية بعجور التي تقع خلف مستشفى عكا، فقبلت أم أيمن على الفور. لكن ما إن مضت لحظات حتى سمعت صوت العمة وهي تصرخ من الخارج: "إجوا، إجوا، إجوا اليهود علينا". كان الطفل لا يزال مبللاً بالماء والصابون، فقفز من يدي أمه، لكنها تمالكت أعصابها، وراحت تناديه للعودة الى الداخل، ثم سارعت الى إحضاء عدة الطوارئ المهيأة دوماً في حقيبة خاصة، وأهم ما فيها تذاكر الهوية ومصباح البطارية في حال انقطاع التيار الكهربائي.

تقول أم أيمن أنها مع خروجها من الباب شاهدتهم مقبلين من جهة مدرسة المروج. كانوا لا أقل من مئتي عنصر. كم كان عددهم كبيراً!

رأت معهم خمسة مقنعين يسير بعضهم خلف بعض، وحولهم حماية من المسلحين. كان المقنعون باللباس العسكري أيضاً، وكان القناع أسود. لم تسمع صوتاً للمقنعين، وإنما تابعتهم وهم يمشون في اتجاه المخيم عبر الشارع الآخر، قرب مدرسة الصمود، حيث دخلوا من هناك وتابعوا سيرهم. لم تتمالك أم أيمن نفسها من الصراخ: "شو في؟" فقالوا: "ولا شي. الكل يخرج الى الشارع. الكل يطلع". قالت لهم: "ما في حدا هون غيري". فكرر المسلح كلامه: "الكل يطلع".

لم تستطع أم أيمن تحديد هويتهم، فهم لم يتكلموا بداية إلا القليل. غير أنها لاحظت ارتباكاً فيما بينهم. وقد انقسموا قسمين: قسماً توجه صوب مخيم شاتيلا ودخل حرش ثابت، وقسماً التف حول الأبنية في بئر حسن.

بلغ عدد الذين خرجوا من بيوتهم في بئر حسن نحو خمسة وسبعين شخصاً، وليس بين هؤلاء من فلسطينيين غير أفراد عائلتين فقط، والباقون كلهم لبنانيون وسوريون وأكراد. وأم أيمن نفسها سورية متزوجة بفلسطيني.

صفّوهم عند الحائط بالقرب من بناية بعجور، وقالوا: "النسوان يوقفوا في الخلف، والرجال والشيوخ في الأمام، والأطفال أمام الجميع". وقالت النساء بهلع: "الله يخليكم شو بدكم تعملوا فينا. . . " فقال واحد منهم: "جيبوا معكم تيابكم لناخدكم لمستشفى عكا". هنا رد عليه عنصر مسلح آخر: "ليش التياب؟ بلا التياب". فقال الأول: "يلاّ تعالوا بدون التياب". لكن ما إن وقف الناس للذهاب الى مستشفى عكا، حتى كان عنصر جديد قد انضم الى رفاقه في تلك اللحظات، فعادوا وقالوا لهم: "خلّيكم. اقعدوا محلكم. قولولنا وين في مخربين عندكم هون؟"

حافظت أم أيمن على هدوء أعصابها، وراحت تراقبهم وهم يختلفون، بل يتناقضون في الرأي.

أم وسيم، جارة أم أيمن وقريبتها وصديقتها، أم لثلاثة أولاد أكبرهم في الثانية عشرة، عاشت تجربة الساعات نفسها في المكان نفسه. هي متزوجة بالأخ الأكبر لزوج أم أيمن. والشهادتان كانتا في مقابلتين منفصلتين، لكن الذكريات لحدث واحد.

وأم وسيم فلسطينية من الخالصة، التي أطلق عليها الإسرائيليون كريات شمونة، زوجه كان جريحاً في مستشفى غزة، لكنها لم تتمكن يوم الخميس من الوصول اليه بسبب القصف والقنص. اكتفت بالمرور ببيت أخيها وأمها بالقرب من حي المقداد لتوصيهما بأخذ الحذر، وكأنها لا تعلم أن الحذر لا يمنع القدر. كانت تلك آخر مرة ترى فيها أمها وأخاها وأسرته. وهي تقول:

هنّي لما دخلوا المنطقة كان واضح إنهم ما بيعرفوها حتى. لما أجوا كانوا أكتر من مية عنصر أجوا من ناحية مدسة المروج. إحنا عارفين إنهم بدهم ييجوا بأي لحظة، بس مش عارفين وين بدنا نروح. في ناس قالوا هنّي أجوا من المطار علينا، أنا شفتهم كمان جايين من منطقة السفارة الكويتية، نزلت مجموعة منهم لجهة حرش تابت، ومجموعة أجب لبير حسن من جوّا. هنّي ذاتهم اللي كانوا عم يطوقوا المنطقة.

لما دخلوا بلّشوا بالقواص على الناس اللي بالمدرسة، مدرسة المروج. شافوا الناس عم تهرب صاروا يقوصوا بالهوا . . . وبعد ما صفّونا على الحيط، راحت بنتي جيهان الصغيرة تقول للمسلح اللي رافع سلاحه بوجوهنا: "الله يخليك، الله يوفقك، ما تقتلناش". وقلّو واحد من الجيران: "أنا يا خيّي لبناني".

قلّو: "شو؟ لبناني؟ هلّق صرت لبناني؟ بالأول ما كنت لبناني.

صُفّوا هون بدّي أعمل. . . وبدّي ساوي فيكم. . . هلّق كلكم رح تشوفوا . . . " ولما صرخت بعض النسوان وبكيوا الأولاد، صاح فيهم واحد: "اخرسوا، اللي بصرخ بدّي اقتله".
وصار همنا نحنا نحاول نسكّتهم.

بينما كانت أم وسيم تتكلم، كانت عينا جيها، ابنة الحادية عشرة، لا تفارقانها. وتكلمت الفتاة:

"
أنا قلتلّو ما يقتلني. كانت دقنه طويلة، وكان صوته عالي".

راح الجد يراقب حفيدته باعتزاز. هو رجل في السبعين من عمره يتحدث ساخراً من الحدث كله. وهو يعمل حارساً في بناية بعجور، وهو الذي اشتهرت قصته بأنه تحدى المسلحين.
قال الجد:

الساعة شي سبعة أو سبعة ونص، هيك شي، ما شفتهم إلا فايتين علينا بالعدة الكاملة. قال: "اقعدوا". الناس قعدت.

قلّي: "ليه ما بتقعد إنت؟" قلتلّو: "ما بديش أقعد. بدك تطخ طخ". قلّي: "شو إنت؟" قلتلّو: "فلسطيني من 48. أنا من نص فلسطين". نط واحد قال: "رشهم. رشهم وخلّصنا منهم". راح واحد مبيّن مسؤول فيهم، لكن كان داير وجهه، أنا ما شفته، لكن سمعت صوته، راح قايل: "ما فيش معي أوامر أرشهم لسّا".

وراح هادا المسؤول طلع برّه وغاب نتفة صغيرة ورجع يقول: "ارتكوهم. يلاّ اتركوهم". وهيك صار.

الساعة كانت صارت شي تسعة أو عشرة بالليل. قمنا طلعنا كلنا، واحتمينا بالبناية جوّا. وقام رجع مرة تاينة الرجّال اللي قلهم ما فيش معي أوامر أرشهم، رجع هو نفسه يتأكد إذا في مخربين بالبناية. كان يحكي معي وأنا مش قادر أشوف وجهه من العتمة، راح قلّي: "يا عم بتعمل معروف ما تخلّي حدا يضهر". وضلّوا مراقبينا طول الليل. وعند الفجر حسّينا عليهم راحوا للبناية التانية.

أم أيمن عادت تتذكر كيف كانوا في حالة غير طبيعية، فقالت إنهم لما جمعوا أهل بئر حسن في الشارع، قالت لهم امرأة: "الله يخلّيكم، بدّي أسقي إبني مي"، فأجابها أحدهم بحدة: "بلا مي، ما تسقيه مي. نحنا بقالنا تلات ايام بلا مي. خلّي إبنك بلا مي".

وتروي أم أيمن ما جرى في بناية مجاورة لهم ليس فيها فلسطيني واحد، فكل السكان لبنانيون. قالت إن المسلحين سألوهم بالتفصيل عن البيوت في نهاية الشارع، وهي التي كانت تسمى "المعسكر" لأنها كانت مقراً للفدائيين. وأكد السكان لهم أن الفدائيين خرجوا. وقام المسؤول عن المسلحين يسأل جارهم: "خبّرني وين نحنا هلّق؟"

فأجابه: "إنتوا هلّق موجودين في بير حسن". رجع يسأل: "يعني. . قدّيه نحنا منبعد عن صبرا؟" قال له: "صبرا أصبحت في منطقة تانية". وعاد المسلح المسؤول يسأل عن قصر صبري حمادة وأين يقع؛ عن مخيم شاتيلا وأين يقع؛ عن مستديرة المطار وأين تقع. ثم عاد يتأكد إن كانوا فعلاً في بئر حسن، وإن تكن بئر حسن فعلاً ليست مخيماً للفلسطينيين. ولما أكد له السكان المحتجزون جميعاً أن بئر حسن ليس مخيماً، خاطب المسلح المسؤول رؤساءه باللاسلكي: "سيدي، نحنا موجودين الآن في منطقة بير حسن. سيدي، شو نعمل؟"

بدا واضحاً خلال لحظات أن أوامر سيده كانت أن ينقسموا قسمين: قسماً يتابع نحو "الداخل"، نحو المنطقة المطلوبة، وقسماً يبقى في منطقة بئر حسن. وهذا ما جرى.

داخل بناية بعجور التي احتمى بها الجد، حارس البناية، مع أحفاده وكنتيه أم أيمن وأم وسيم، كان هناك وقت كاف أمام الكبار، بعد أن نام الصغار من الخوف والتعب، كي يتساءلوا:
لماذا لم يقتلوهم فعلاً؟

هل لأن بئر حسن فعلاً – ليست مخيماً؟

لكنهم فلسطينيون. لماذا لم يقتلوهم؟ هل من سبب ما؟

في الأيام اللاحقة عرف الجد وأسرته أن غيرهم في منطقتهم، بئر حسن، قد قُتل. فلماذا لم يقتلوهم، كسواهم؟ هل تكشف الأيام سر بقائهم أحياء؟

الرواية الثانية ـ شاهدتان على دخولهم شارع الثكنة

كان ناطور بناية على مقربة من ثكنة هنري شهاب. قتلوه في الساعة الأولى.

ليس هناك على موته شاهد من أهله، بل شاهدتان من الجيران.

الشاهدة الأولى حربه، من مهجري تل الزعتر الذين اقتادوهم الى الدامور، ثم قادتها الحرب الى بئر حسن قبالة ثكنة هنري شهاب ونادي الغولف. أما الاجتياح الإسرائيلي الأخير فقادها الى سينما كونكورد في شارع فردان، حيث التجأت جماعات المهجرين الى الأبنية الكبيرة الحصينة. ومع خروج المقاتلين عادت الى شقتها الصغيرة لتجد الزجاج محطماً والأبواب مخلعة. أخواها مسافران، وليس لها في بيروت سوى أخت أرملة. وهما تعيشان معاً.
شاهدت حربه انتشار الإسرائيليين في الأيام الأخيرة، لكنها لم تشاهد مبالغة منهم في طمأنة الناس كما روى البعض، وإنما على العكس من ذلك، قالت إنهم كانوا يدققون مع كل السكان، ويأمرون كل من يشتبهون فيه أو يقف على شرفة: "إنزل!!" وينزل المنادى عليه للتحقيق معه. وشعرت كأنهم في كل مكان، وكانوا داخل الثكنة، حتى عاد اليها الجيش اللبناني فاستردها. وكان الجيش العائد بالعشرات هو من أوحى الى السكان بالطمأنينة.
تجزم حربه أن المسلحين المهاجمين كانوا من القوات اللبنانية وقوات سعد حداد، وذلك نتيجة رؤيتها القمصان البيض التي ارتداها الكثيرون منهم تحت اللباس العسكري الأخضر، والتي كان مكتوباً عليها القوات اللبنانية أو سعد حداد، وكذلك رؤيتها الشاحنات الكثيرة العدد التي كتب على بعضها القوات اللبنانية، أو قوات سعد حداد. وقد ترجل ركاب هذه الشاحنات أمام الثكنة. دخلوا ثكنة الجيش قائلين أنهم يريدون ماء للشرب، وكان الجواب أن لا ماء في الثكنة وأنهم لا يريدون إعطاء ماء لأحد. فدخلوا كل الأبنية المجاورة، وأخذوا ينزلون الناس الى الملاجئ، ويرعبونهم بالبلطات والسكاكاين والمسدسات، وكأنهم يوزعوا المهمات بهدف إلقاء الذعر. وهي تقول:
هنّي دخلوا علينا بالعشرات، صارت ناس منهم تضرب، وصارت ناس تقتل، وناس تفتش على بنات حلوين.
في جارنا ناطور بناية إسمه خير هو فلسطيني من لوبيا، أنا بعرفه، بس ما بعرف إسم أبوه وعيلته. وخير مَرْتُه حلوة، فلما دخلوا عليهم، كانوا ست مسلحين، إجوا يزفْروا الكلام مع مَرْتُه وطلبوا منها تطلع معهم على الطابق التالت. كانت قبضاية. شلحت الصرماية وضربتهم فيها وقلتلهم: "يا واطيين، يا عيب الشوم عليكن ما بتستحوا على حالكم". ما ضربوها ولا غصبوها قاموا قلولها: "خلّيكي هون ونحنا مناخد جوزك على الطابق التالت ومنتفاهم معه".
وكان واقف إبن عمتو لخير، راحوا ربطوه، ربطوا إيديه ورجليه على الحيط وقلولو إنو إذا بيتحرك أو بيطلّع صوت بيرجعوا بالبلطة بحطوا راسه لحال وجسمه لحال. وطلعوا لفوق مع جوزها وهنّي ينادوا بعض: "يا محمد، يا أحمد، يلاّ يا عبدالله. . . " وصلوا للطابق الثاني ووقفوا. وقاموا رجع نزل منهم ناس حتى يقولولها كمان مرة: "إذا ما بدّك تيجي معنا، إحنا رح نرجع نتفاهم نحنا وجوزك في الطابق التالت". رجعت هيّ صرخت عليهم وبزقت عليهم: "يا عيب الشوم عليكم". قلولها: "طيب رح نخلّيك تنبسطي كتير إنت وجوزك. الله يخلّيلك يّاه هالشمعة".

بقيت المَرَه ناطرة، وهيّ بتفتكر إنهم عم بحققوا مع جوزها. وضلّت مدة طويلة ناطرة. ونحنا كمان كلنا بالشارع ما منسترجي نتحرك أو نروح لمحل. كنا ناطرين حدا يحقق معنا أو نقدر نفركها ونهرب. وكانوا المسلحين بعدهم بالعشرات عم ينغلوا نغل، ومحاوطين كل المحلات، وداخل البيوت. ونحنا كنا عم نسمعهم بنادوا على واحد بعلبكي من الحي حتى يوقف، وفجأة سمعنا مَرَه عم تصرخ بأعلى صوتها: "يا جماعة انقذونا. يا جماعة، خير لقيناه مقتول بالطابق التالت".
نحنا ما استرجينا نطلع لفوق. لكن الله بعت ناس طيبين. أجا اتنين رجال لبنانية طلعوا لفوق وسحبوه ومددوا جتته قدّام البناية. كاينين ضاربينه بالبلطة على راسه وطارقينه بكاتم صوت جوّا مناخيره، وداعسين على رقبته. وبعدين كاينين ساحبين حالهم ومش طالعين من نفس المدخل اللي فاتوا منه، يعني من مدخل الملجأ.
مَرْتُه كانت حالتها بالويل. أنا مَرْتُه بعرفها. وهي مَرْتُه لبنانية وعندها بنت عمره تلات سنين. أجت قلتلي: "بدّي أطلع عند الاسرائيلية. دخيلك. دخيلك. بتيجي معي يا حربه؟" قلتلها: "بروح معك. هيّ كلها موتة".
وصلنا عن أول نقطة للإسرائيلية في نزلة شارعنا، يعني شارع الثكنة أو شارع الغولف. وما لحقنا دخلنا لاقت مَرْتُه واحد من المسلحين اللي دخلوا عليها قاعد مع الإسرائيلية، ومن اللي كانوا بلبل بالحكي معها، راحت شرحتلهم القصة، ولما أشّرت على المسلح وقالت إنّو هادا مش واحد منهم، وبس، قالت إنّو هادا حكى معها هيك وهيك. لكن قام هوّ نكر.
رحت أنا قلت للضابط الاسرائيلي: "طيب ليش بعدك واقف. طيب هوّ اللي قتل الزلمة".
وأنا أول يوم دخلوا الإسرائيلية شفتو لهادا الضابط ما غيره، ورحت أسأله: "مندخل على صبرا؟" قام قلّي: "ما تروحي على صبرا وشاتيلا، إذا بدّك تروحي على صبرا وشاتيلا بدّك تموتي بصبرا وشاتيلا". لكن هاي المرّة في الغرفة المليانة جنود ومن القوات أكيد، قام جاوبني هادا الإسرائيلي: "نحنا ما خصناش". وكانوا عم يضبضبوا أغراضهم ليتركوا هاديك النقطة في بير حسن.
رحنا رجعنا للجيش على الثكنة، والله يجزيهم خير قاموا الجنود من الثكنة ساعدونا على رفعه. لكن قلولنا: "إحنا ما معنا أوامر نشتبك معهم. وما بصير نحط على كل بناية جيش. ضبّوا حالكم وتعالوا عنا على الثكنة".
وهيك صار. جينا والتجأنا لثكنة الجيش وقعدنا. وكان عدد كبير كتير فلسطينية معنا بالثكنة.
الشاهدة الثانية آمال، جارة أخرى راحت تنتقد انصراف زوجة خير في الأيام العادية الى "غندرتها وزواقها"، لكن ذلك لم يمنع آمال كشاهدة من رواية ما جرى بأمانة، ولم تختلف روايتها عن رواية حربه، بل أكثر من ذلك، راحت آمال تؤكد بانبهار شديد جرأة الجارة زوجة خير، فقالت: "أجت مَرْتُه مسكت هالشحاطة بعيد عنكم ونزلت فيهم ضرب. . . "
لكن آمال لم تتمكن وأسرتها من اللجوء الى ثكنة هنري شهاب كما فعلت حربه وسواها، فكان لآمال وأسرتها مصير مختلف تماماً عن كل من جارتيها، كم سيظهر لاحقاً.
وانتشر الليل في هذه البقعة من بئر حسن، نزلة الثكنة ونادي الغولف، تماماً كما انتشر في باقي الأماكن من بئر حسن. لكن مصير السكان في كل بقعة من المنطقة نفسها كان مختلفاً؛ فهناك بالقرب من مستشفى عكا قتل البعض، بينما اطمأن البعض الآخر في بناية بعجور القريبة من المستشفى نفسه، حتى الصباح.

في كل شارع صغير مصير مختلف. . .

ولكل جماعة من تلك الميليشيات "اهتمامات" مختلفة عن اهتمامات غيرها. .

وما أكثر الاختلاف وأشده بين مزاج قاتل وقاتل.

 الرواية الثالثة شاهدة على دخولهم الحي الغربي

هند، لبنانية جنوبية تتمتع بذكاء وشخصية قوية. تزوجت وهي في الرابعة عشرة من عمرها جنوبياً لا يمت اليها بقربى، لكنها اكتسبت الخبرة من الحياة ومن الإقامة في الخارج بحكم عمل زوجها. وقد أنجبت تسعة أولاد خلال الأعوام العشرين من زواجها. وتعرضت وأسرتها لأكثر من محنة، فاستشهدت ابنتها الصبية خلال الاجتياح الاسرائيلي للجنوب سنة 1978، ودمّر بيتها في الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982.

قبيل خروج المقاتلين من بيروت جاءت هند تبحث عن بيت صغير، ولو من غرفتين. اتفقت مع زوجها على أن يبحث كل منهما في محيط منطقة صبرا وشاتيلا، وقادتها قدماها الى المنطقة الواقعة خلف المدينة الرياضية. كانت المنطقة يومذاك شبه مهجورة، وقد فوجئت برجل جالس بمفرده، فتقدمت وسألته عن منزل:

"
أنا من الجنوب الله يخليك في شي أوضة نقعد فيها، أنا دايرة على بيت، وجوزي داير على بيت، وِلِّي الله بوفقه قبل التاني بنكون قعدنا". قلّي: "تكرمي بدل الأوضة في أربعة تعي اطلعي وهادا بيت أهلا وسهلا فيك". قلتلّو: "إنت من وين؟" قال: "والله من بلاد الله الواسعة. . . " قلتلّو: "طيب يعني كلامك بدل على إنك إبن المنطقة". قلّي: "صحيح، أنا إبن المنطقة. أنا إبن البلاد العربية. أنا فلسطيني. جيبي أولادك وجوزك يا أختي وتعالوا على هالبيت".

قولوا المهم بعطيني حرامات وبعطيني صوفا للمنامة، وفي تختين كانوا تخوتة عسكرية بعدهم جوّا يعني، قلّي: "خدي هدول إلك، وأنا رايح جيبلك تموين لاولادك".

والله صديق معي. فعلاً بروح بجيبلي أكل لاولادي وبقولّي ما تحمل هم. أول يوم تاني يوم ما منشعر إلا طلعت المقاومة من البلد، ولما طلعت المقاومة قعدنا إحنا. ما عدت شفتو، وما عرفت إسمو. بس بعتلي أكتر من مرة كل الأغراض اللي وعدني فيها مع شباب من مستودعاتهم. بعرف إنّو ما اشتراهم، بس أخلاق منّو يتذكرنا في الظروف الصعبة اللي كانوا فيها.

البيت اللّي قعدنا فيه كاينين الشباب محصنينو. واضح كان فيه فدائية. المهم قعدنا. وانتخبوا رئيس الجمهورية. وقلنا إن شاءالله رح يصير في أمن. .. لكن بعد ما انقتل بشير الجميل صعب نقول إنّو فْضِلْنا حاسين بالأمن.

عندما حاصرت القوات الإسرائيلية المنطقة وقامت بقصفها بعنف يوم الخميس تهيئة لما هو آت، كان زوج هند قد ذهب في ذلك اليوم الى الجنوب لزيارة والدته المريضة، وللعودة بالخبز المفقود وبما تيسر من طعام.

اشتد القصف ظهراً وبعد الظهر، وراحت هند تهدئ من روع أولادها، وتؤكد لهم كجنوبية أن إسرائيل لم تفعل شيئاً للنساء والأطفال عندما احتلت الجنوب. ولما أرادت أن تؤكد للإسرائيليين المحاصرين أن ليس في هذا البيت مقاتلون أو رجال، خرجت وهي تحمل المكنسة، فما من أحد يشك في مظهر امرأة وهي تكنس أمام بيتها.

كان بيت هند يقع في أعلى الحي الغربي، في الشارع الفاصل بين المدينة الرياضية والحي، وهو شارع ترابي مواز لبولفار كميل شمعون. فكانت هند تطل من سطح بيتها على الملعب الشهير وعلى بركة السباحة.

في تلك الليلة الأولى، كانت هند من موقع بيتها "الاستراتيجي" هي الشاهدة على دخول المسلحين بالعشرات آتين من ذلك الشارع الترابي الى الحي الغربي وحي عرسال الملاصق له جنوباً. وهي تقول:

ضهرت من البيت والمكنسة بإيدي، إلا شي خمسين ستين شاب مارين من المدينة الرياضية، قريب من المسبح، وسمعتهم بيحكوا لبناني. بيقولوا تعا يا جورج وتعا يا الياس. . يعني بيحكوا كلّو عربي. . كانوا ماشين على الأرض والجرافات وراهم عم تجرف. كانت عم تجرف بدها تفتح الطريق. ساعتهاخفت أنا قلت شو بدّو يصير؟

كان الوقت المغرب. يمكن شي الساعة ستة ونص عشية. بس بتقولي متل قلب النهار وزهرة الشمس القوية. صرت طلّع أنا وقلت أنا بركي إسّى إذا شافوني يعني جنوبية ما بيحكوا، والجنوبية بتنعرف من بعيد!! صرت لِمْ أجلَكم اوراق من الأرض وحط بالعربية.

قاموا اولادي بدهم يطلعوا من البيت وما بدهم يطلعوا، قلتلهم اطلعوا خلّيهم يشوفوا إنّو في أطفال صغار يعني هون، الله وكيلك ما شفت إلا صوت بيصرخ في اولادي: "تعوا لهون". ولما توجهوا صوبنا بدهم ياخدوا اولادي مني صرخت أنا، قمت صرخت وهرّبت الاولاد ونزّلتهم من الشبّاك من تاني ناحية. قاموا قوّصوا عليّ أنا. صابوني بإجري. تصاوبت وتضايقت مظبوط يعني، لكن الحمدلله ما مت بحسنة الاولاد، وبعده أتر الرصاصة برجلي.

لما بلّش الدم يشرّ من إجري، تضايقت أكتر. وما في شي ليوقف النزيف، قمت شلت إيشاري [إيشاربي] عن راسي، يعني قولي ربك الحميد اللي نحنا بنحط الإيشار. منيح اللي عنا هالإيشار بيلزم. شلت إيشاري عن راسي وربطت إجري فيه، ما ربطت محل الرصاصة بالذات كمان أعلى شوي حتى يوقف النزيف. وصرت شوي شوي أحل الربطة حتى ما يصير نزيف داخلي يعني، ولفيت على البيت وجيت من محل تاني، من الدرج.

ذات يوم كانت هند تعمل في حقل التمريض، وقد اكتسبت هذه المهنة بالتمرين والخبرة، لكنها هذه المرة كانت هي الممرضة والمصابة. فبعد أن وصلت الى البيت زحفاً تناولت إبرة لوقف النزيف، وشكتها بنفسها لنفسها، وهذا بينما كانت تهدئ من روع أولادها، فتضع المنديل على فم ابنتها كلما سعلت، خوفاً من سماعهم الصوت وقدومهم الى البيت.

لم تجرؤ على إضاءة شمعة. كانت واثقة بأنهم لا يعلمون أن أحداً في المنزل؛ ذلك بأنها جعلتهم يتصورون أنها هربت مع أولادها بين الزواريب في اتجاه الشمال، حيث كان واضحاً أنه لم يكن هناك مسلحون منهم قد وصلوا بعد. وهناك حيث لم يصلوا قط، حتى فيما بعد.

طوال الليل كان الصراخ يأتي من الحي الغربي، من "سفح التلة" خلف المدينة الرياضية. وكانت هند تسمع أصوات الاستغاثة، وهي تقول:

كنت أسمعهم يقولوا: "منشان الله أنا شو ذنبي؟" وأسمعهم قولولهم: "إنتو هيك وهيك. . إنتو ما بتعرفوا الله".ويقوموا يدبحوهم. واحدة قلتلو: "أنا لبنانية، أنا من الجنوب". قام زفّرلها الكلام، وشو بدّي إحكي شي ما بينحكى. لما يدبحوا الواحد يصرخ متل تور البقر. يكمشوه يدبحوه. ويدبحوا كل جماعة مع بعض، ويرجعوا يحطوهم بالجرافة وترفسهم الجرافة وتقلب عليهم التراب وترجع تمشي عليهم. كانوا يتركوهم ما يدملوهم، ويمشوا يجيبوا غيرهم. وكانت ليلة شبتْ منها. كانوا يقتلوا نسوان، بنات صغيرة، كبار، صغار . . .

كانت هند تتكلم في بيتها، وكنت أستمع اليها مع مصور تلفزيوني صديق، كان من أول من عرف قصتها بعد انتهاء المجزرة، وهو من أخذني للتعرف اليها. أرادت هند أن تكمل حديثها من على سطح منزلها حيث تمكنت من التسلل ليلاً بمفردها في تلك الليلة الأولى الرهيبة. وصعدنا نحن الثلاثة الى السطح. هناك قالت لي إنه كان يوجد في السابق حرامات منشورة على جوانب السطح، وهو ما لم يترك مجالاً لهم لرؤيتها. ثم عادت لتكمل حديثها وهي تشير الى البيوت والأماكن في المنحدر وراء المدينة الرياضية، والمعروف بالحي الغربي:

بطلّ هيك بلاقيهم عم يدبحوا شي بإيده البلطة لما يصفّلو راسه للزلمي يطير لتاني ناحية ييجي التاني يحطلّو بالكلاشن يقوصو. صدقوني يا جماعة، شي ما بيتصدق. كانوا يدبحوهم ويرجعوا يرشوهم، وكان يطلع صوت قواص.

كنت شايفة كل شي، يعني لو في إبرة بشوفها مع القنابل المضيئة. بعدين أنا أعلى منهم. أنا كنت شايفتهم، هني مش شايفيني.

كان لدى هند وقت كاف للتأكد من أن عدد الجرافات التي رأتها تلك الليلة أربع جرافات، وقالت أنها شاهدت أقرب الجرافات اليها مكتوب عليها باللغة العبرية، كما شاهدت الجرافات الأربع كلها تعمل، الكبيرة منها والصغيرة. لكن ليس في استطاعتها أن تعد المرات التي عملت فيها هذه الجرافات. كانت في الوقت نفسه خائفة على أولادها وتخشى إن هم اهتدوا اليها والى أولادها أن يقتلوهم جميعاً.

شهدت هذه الأم الممرضة على اغتصاب فتيات صغيرات، وعلى إخراج الجنين من بطن أمه، وأكثر من قصة شاهدتها وروتها لم تكن تعلم من هم أصحابها. نحن عرفنا فيم بعد أصحاب تلك العذابات وأسماءهم بالمقارنة بين الأوصاف التي قدمتها وبين الشهادات التي تقدم بها ذوو الضحايا هؤلاء والمتطوعون العاملون في المؤسسات الإنسانية.

كانت هند حقاً الشاهدة الوحيدة على دخولهم من خلف المدينة الرياضية.

لم تنم هند تلك الليلة.

كانت كلما تذكرت زوجها دعت الله أن يحميه في عودته. هل استجاب الله لها؟

 الرواية الرابعة شهادة مؤجلة من حي عرسال

انتصار، أم لثلاثة أطفال، ولد وبنتين صغراهما في نهاية العام الأول من عمرها. يقع بيتها في قلب حي عرسال المجاول للحي الغربي على سفح التلة، خلف المدينة الرياضية. ومن الممكن الوصول الى بيتها من أكتر من زاروب. لكن انتصار نفسها لم تشاهدهم وهم يقتحمون، كما شاهدتهم هند، ذلك بأنها كانت تمكنت من الهروب قبل الخامسة مساء.

خافت انتصار من القصف الشديد بعد الظهر، خافت على أطفالها الذين ما عاد في إمكانهم احتمال أصوات القذائف الاسرائيلية، وخافت أكثر لما قتل جار لهم بشظية إسرائيلية، فراحت ترجو زوجها أن يأخذهم الى منزل خالتها. وكان زوجها يملك سيارة بحكم عمله، وتمكن بصعوبة من إخراجها من الزاروب الضيق بسبب تكدس أكثر من سيارة لم يتكمن أصحابها من الذهاب الى أعمالهم يوم الخميس. عندما سمعت انتصار صوت محرك السيارة يقترب ظنته أروع موسيقى. وهي تتذكر حوارها مع زوجها لما دخل مستعجلاً:

قمت سألتو: "أجيب شي معي؟"، قلّي: "بس التياب اللي محضرتيهم للاولاد". كنت محضرتلهم على طول شنطة صغيرة. أخدنا على شارع الحوري بالطريق الجديدة. هناك ساكنة خالتي. لما وصلنا لحد التعاونية، تقوم تيجي قذيفة هناك. لما وقعت القذيفة قلّي: "شو، ترجعي؟" قلتلّو: "لأ، يا ربي شو أرجع، دخيلك ما صدقت على الله إيمتى وصلت. دخيلك هون في ملاجئ".

وصلنا لبيت خالتي، وهيّ إلها عادة بتصيِّف بعاليه، وهيّ كانت وقتها مصيْفة بعاليه، على علمي. قلّي: "روحي انزلي شوفيها إذا هيّ بالبيت واللاّ لأ". رحت نزلت سألت ولقيتها بالبيت. قلّي: "روحي بالاولاد وانزلي، لأجيب الحليب والقناني".

أنا كنت عارفة هو عامل القنانل والحليب حجة. نحنا كان في معنا جيران بالبيت، قلولنا خدونا معكم. قلتلهم إنّو بيت خالتي صغير كلّو غرفتين وهنّي عيلتين بحساب إبنها بكون عندها، ويمكن ما لقيهاش بالبيت. لكن راح جوزي أبو نبيل قلهم: "خلّيكم هون هياني برجع باخدكم".

أنا كان قلبي حاسسني، ياما مرات كان يتركني وقت الحرب مع الصغار في الملاجئ ما أخاف، هاي المرة خفت كتير، رحت أترجاه يبقى معنا، ما كان يرد عليّ، قال لازم يوفي بوعدو للجيران، ووعدني إنّو بيرجع قوام.

مضت اللية الأولى ولم يرجع أبو نبيل.

لم يكن أحد يعلم أنه كان هناك مجزرة.

أم نبيل، زوجته انتصار، لن تعلم عنه شيئاً قبل انتهاء كل شيء.
هي هربت من القصف. وهو عاد اليه غير مبال كي يفي بوعده للجيران، وكي يخلصهم كما خلص زوجته وأولاده. فهل تمكن من تخليص الجيران؟

هل تمكن من تخليص نفسه؟

هل يمكنه أن يشهد أمامنا، فيما بعد، على ما جرى؟

 الرواية الخامسة الجيران الشهود في أول شاتيلا

كان أحمد شاباً على مقاعد الدراسة سنة 1982. هو من الخالصة في شمال فلسطين أصلاً، ومن النبطية في الجنوب اللبنانية ولادة. عمّر أبوه بيتاً في النبطية لكنهم غادروه في أعقاب اجتياح الجنوب سنة 1978 وانتقلوا الى شاتيلا. سكنوا في أول شاتيلا من جهة شارع السفارة الكويتية. أسرته كثيرة العدد، تضم عشرة من الإخوة والأخوات، لكن اثنين كانا ناقصين في ذلك اليوم؛ فالأخ الأكبر كان يعمل خارج لبنان، والأخت الصبية الكبرى كانت اختطفت ذات يوم على حاجز كتائبي.

يقع بيت أحمد بالقرب من الطريق العام، شارع شاتيلا، الى يمين المقبل من شارع السفارة. ويسكن في هذا البيت الصغير الملاصق لبيوت آل المقداد الأبوان والجدة والثمانية الباقون من الإخوة والأخوات. أما مهنة الوالد فكانت من المهن الرائجة جداً بين السكان، والمعروفة بلغة أهل المخيم: "بياع خضرة وبياع دخان".

يقول أحمد إن القصف الإسرائيلي اشتد في الساعة الرابعة من بعد ظهر الخميس بشكل لا يوصف، وسقطت قنابل كثيرة على المخيم، لكن معظمها كان يقع في أحياء لا سكان فيها، أو أن معظم السكان لم يكن عاد اليها بعد.

لم يكن أحمد في بيته تلك الساعة؛ كان مع بعض أصدقائه يتلهون بتعداد القذائف، ويتناقشون، وفجأة سقطت بالقرب منهم إحدى الشظايا وأصابت أحدهم، "وليد"، فقام أحمد والآخرون يحملونه الى مستشفى غزة. وكان هذا بينما القصف ما زال عنيفاً بين الساعة الخامسة والساعة السادسة. وفي المستشفى شاهد المئات من الملتجئين اليه، وخصوصاً من سكان صبرا. وبينما كان ينتظر انتهاء العملية الجراحية التي خضع لها صديقه، دخل المستشفى ناس من شاتيلا وهم يصرخون: "دخلوا المخيم. دخلت إسرائيل على المخيم".

استغرب أحمد لماذا تدخل إسرائيل لتقتل الناس. وهو من الذين طمأنهم الجنود الإسرائيليون المحاصرون للمخيم. ولم يطل تفكيره حتى دخل المستشفى صديق له تعلو وجهه صفرة الهارب من الموت، وأسرّ اليه بصوت متقطع:

ما تصدق يا أحمد. مش الإسرائيلية اللي داخلين، هنّي اللي داخلين الكتايب. أنا ما لحقوا دخلوا البيت حتى طبقت الباب عليهم وهربت، نطيت من الحيط. وقدر أخوي يهرب معي، شوف هيّو أخوي واقف على الباب. الله نجانا من الموت يا أحمد. لو بتشوف قديش رشوا علينا أنا وأخوي، لكن كنا صرنا على الجنب التاي من الحيط وما قدروا يصيبونا. لكن ما بعرف شو ممكن يصير لأهلي. شو بتقول يا أحمد؟

لم يعرف أي من الصديقين النوم إلا لماماً في تلك الليلة، ولم يعرف أي منهما مصير عائلته. ولم يكن مصير العائلتين واحداً، فقد كان الفارق هائلاً بين المصيرين، كالفارق بين الموت والحياة.

كان أحمد أحد الرفاق السبعة الذين قال لهم الضابط الاسرائيلي يوم الأربعاء: "عودوا الى بيوتكم. اليوم ما يترك حدا. عودوا الى بيوتكم. بس نهار الجمعة خدوا اخواتكم وأهلكم".
عن أي يوم جمعة كان الإسرائيلي يتكلم؟

بعض الجيران الشهود قال أنه رأى المسلحين يقتلون أسرة أحمد كلها على العتبة أمام بيتها في الساعة الأولى من المجزرة. وهذا يعني أنه حتى لو تمكن أحمد يوم الجمعة المنشود من الوصول الى بيته – وهو لن يتمكن – فهو ما كان ليد حتى جثث أبويه وإخوته وأخواته ليأخذها كما قال له الإسرائيلي. حتى الجثث اختفت نهائياً. جثة واحدة بقيت شاهدة عند عتبة البيت هي جثة الجدة. أما التسع الباقية لأبية وأمه ولسبعة من إخوته وأخواته فقد اختفت.

نقلا عن عرب 48 بتصرف

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع