منع الاقتتال الفلسطيني أم التعاون؟

 

د. عبد الستار قاسم

صحيفة الخليج الإماراتية  20/8/2003

 تبدو البهجة في كثير من الأحيان على وسائل الإعلام العربية وهي تزف للعرب والمسلمين أنباء عن تجاوز الفلسطينيين مشاكل داخلية كان من شأنها أن تؤدي إلى اقتتال إن استمرت. وكذلك الأمر بالنسبة لبعض السياسيين والمحللين العرب الذين يرون في تجاوز الشعب الفلسطيني مسائل حساسة تحمل في طياتها صراعات داخلية أنه إنجاز كبير يقود إلى الإشادة بالسلطة الفلسطينية والفصائل التي تعاونت نحو هذا السبيل.

لا شك أن الحكمة قد سادت في كثير من مواقع الاحتكاك الداخلي الفلسطيني، وتمت محاصرة نقاط التوتر والخلاف لمصلحة الهدوء والتروي. لم يكن من الفلسطينيين على مختلف الصعد من رغب في دفع الأمور نحو الاعتراك وإسالة الدماء على الرغم من وجود مناوشات بسيطة وشجار على مستويات محلية. عدم الاقتتال هو مطلب أخلاقي أولاً وجماهيري ثانياً وفصائلي وحزبي ثالثاً، ولا يفلت من الإدانة واللعنة كل من يحاول زج الشعب الفلسطيني في معترك داخلي يبعده عن ساحة الصراع ضد الاحتلال من أجل الحرية والتحرير.

إنما هل سأل أحد نفسه لماذا تكون التصريحات والأخبار حول تجنب الاقتتال الفلسطيني، وليست حول تعاون مختلف قطاعات الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق الهدف الفلسطيني؟ ألا تحمل البهجة بتجنب الاقتتال نوعاً من الحزن والألم؟ حقيقة إنه من المؤسف أن يصل الوضع الفلسطيني بعد أكثر من مائة سنة من الصمود والنضال إلى مثل هذا الطرح المخالف تماماً للكثير من الشعارات الفلسطينية التي تم تبنيها عبر الزمن مثل "تحرير الوطن والحق في تقرير المصير والكفاح المسلح طريقنا نحو التحرير وتحرير فلسطين طريق الوحدة العربية". هل تدهور الوضع الفلسطيني إلى درجة أن أصبح الشعار هو تجنب الاقتتال؟

شعار "تجنب الاقتتال" يعبر حقيقة عن وضع داخلي صعب يختلف حدياً عما يتم التغني به في وسائل الإعلام من الوحدة الوطنية والموقف الواحد النابع من التفاهم المشترك. هناك سلطة فلسطينية وقعت اتفاقيات مع "إسرائيل" تحرص على المتطلبات الأمنية "الإسرائيلية" وتتناقض مع المقاومة الفلسطينية. هذه الاتفاقيات لا توقف الاستيطان ولا مصادرة الأراضي ولا تمنع بناء الجدار الفاصل ولا تحول دون قيام "إسرائيل" بملاحقة الفلسطينيين؛ وهي لا تقدم حلا لأي قضية فلسطينية حساسة مثل عودة اللاجئين وحق تقرير المصير والانسحاب من القدس وإقامة نقاط عبور فلسطينية حرة مع الدول العربية. إنها اتفاقيات تنص صراحة وبوضوح على وجوب ملاحقة السلطة الفلسطينية للإرهابيين (أي المقاومين والمجاهدين) وتمنع ملاحقة الجواسيس والخونة والعملاء.

هذه الاتفاقيات لا تتناسب مع فكر المقاومة سواء كان الذي تتبناه حماس أو الجهاد أو شهداء الأقصى. الاتفاقيات ومبادرة خريطة الطريق تطالبان باعتقال الفلسطينيين الذين يجلسون على الطاولة للتفاوض مع السلطة على وقف إطلاق النار أو إقامة هدنة، وباعتقال الفلسطينيين الذين تطالب السلطة والفصائل "إسرائيل" بالإفراج عنهم. الاتفاقيات مع "إسرائيل" عبارة عن نقيض الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولا يمكن لفكر مقاوم أن يلتقي في النهاية مع فكر يتبنى مفاوضات مثل تلك التي جرت منذ عام 1991.

الجو الفصائلي العام في فلسطين لا يساعد أيضاً على تحقيق التعاون الذي يقود إلى إنجازات مشتركة على نطاق واسع، ذلك لأن عقلية "غلابة يا فتح" ما زالت سائدة حتى الآن لدى أغلب التنظيمات. يظهر للمراقب في أغلب الأحيان أن الفصيل يعمل لنفسه وليس لفلسطين، وأن مصلحته الخاصة تعلو في النهاية على المصلحة العليا، وأن المصلحة الوطنية يتم تعريفها في كثير من الأحيان من منطلق التعريف الخاص بالفصيل. هناك تعصب فصائلي واضح في مختلف سلوكيات الفصائل والذي يعبر عن نفسه بقسوة في المسيرات الفصائلية الخاصة بالمناسبات حيث تطغى رايات الفصائل على العلم الفلسطيني. بإمكان مشاهد التلفاز أن يلاحظ هذا الأمر بسهولة. حال التعصب دون تعاون واسع فيما بين الفصائل وبينها وبين جمهور الناس، وسبب الكثير من التوتر في العلاقات كاد أن يصل حد الصدام المسلح الذي كان يحصل في الأردن ولبنان إبان وجود المقاومة الفلسطينية. حصل تعاون ميداني بين الفصائل وجرى تنسيق أحياناً حول بعض الأمور لكن ذلك لم ينهض ليكون نمطاً عاماً مؤسسياً يسم العمل النضالي الفلسطيني.

يقود التعصب الفصائلي أيضاً إلى تجاوز جمهور الشعب الفلسطيني وتتصرف الفصائل في أغلب الأحيان وكأن الشعب غير موجود. فمثلا ذهبت الفصائل إلى حوار القاهرة دون أن تطرح القضية والمرجو من الحوار للنقاش والتداول الجماهيريين، وكذلك حصل فيما يتعلق بما عرف بالهدنة. السلطة والفصائل تفصلان نفسيهما في كثير من الأحيان عن البعد الجماهيري علماً أن العدد الأكبر من الشعب الفلسطيني يعرف نفسه أنه مستقل وفي هذا تكمن خطورة الانفصام بين القيادات وجمهور الناس.

من المفروض أن يكون الحديث الفلسطيني عن الانسجام والتوافق والتعاون والعمل الجماعي خاصة أن الشعب الفلسطيني شعب منكوب يعاني مر العذاب على مدى عشرات السنين. فمثلاً من الممكن أن يكون التداول حول توفير سبل العدالة في المجتمع الفلسطيني واقتلاع الفساد من جذوره ومحاسبة الفاسدين، وحول إقامة مجلس عسكري سري ينسق أعمال المقاومة التي تقوم بها الفصائل لتصب ضمن أهداف محددة واضحة تعبر عن إرادة فلسطينية عامة، وحول إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس تضمن التمثيل لجميع الفلسطينيين، وإعادة النظر بالسلطة الفلسطينية وأجهزتها والدور الذي قامت به حتى الآن في مختلف مجالات الحياة ووضع برنامج وطني أمني في مواجهة الاختراقات الأمنية "الإسرائيلية".

من المطلوب فلسطينياً أن يبقى التناغم سائداً بين مختلف القطاعات: إدارة شؤون الشعب اليومية وإدارة الصراع ضد "إسرائيل" وقيادات الفصائل والمقاومة وفئات الشعب المختلفة على نطاقها المهني والجماهيري والأهلي، ذلك لكي يكون الشعب في النهاية هو الرافعة لمختلف الجهود الموجهة نحو استعادة الحقوق الفلسطينية، لا أن يكون مجرد متفرج أو مشارك عن بعد دون أن تكون له كلمة حاسمة. الآن تعتبر السلطة الفلسطينية نفسها رافعة الشعب وكذلك الفصائل تعتبر نفسها، وهذا منطق مقلوب في تاريخ الشعوب التي عملت على التحرر والتحرير.

القوة تستمد من الشعب إذا أرادت أي قيادة أو حركة تحرير أن تنجز عملها بأقل الخسائر وأقصر الأوقات.

الحديث حول تجنب الاقتتال خطير جداً لأنه يحمل في داخله احتمال الاقتتال، ومن الملح أن يعمل الجميع، الفلسطينيون والعرب، على إعادة صياغة كل هذه المعادلة الفلسطينية الشاذة الآن والخارجة عن مطلب التحرير واستعادة الحقوق. هذه مرحلة لم تنقذ ما أمكن إنقاذه كما قال شعار البحث عن حل سلمي مع "إسرائيل" وإنما خربت ما أمكن تخريبه، ولا مناص من العمل بجد وبشكل جماعي نحو التخلص منها

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع