قراءة أولية في الانتخابات البلدية في قطاع غزة

 

د.احمد مجدلاني

 

ردود الفعل المتباينة لدى الأوساط السياسية الفلسطينية عن نتائج الانتخابات البلدية في الجزء الثاني من المرحلة الاولى عكس إلى حد بعيد صورة التخبط وعدم الدقة ليس في قراءة المؤشرات والدلالات التي أسفرت عنها هذه الانتخابات وإنما فيما ذهب إليه البعض ووصفها بالكارثة الكبرى التي لحقت بحركة فتح وبعموم التيار الوطني الفلسطيني أو التيار اليساري والعلماني عامة ، ومصدر هذا التشويش في واقع الأمر انه بدا للبعض وللوهلة الاولى انه مفاجئة أو صاعقة هبطت عليهم في جو صاف لم تسبقه غيوم ورعود ، وفي واقع الحال أن نتائج الجزء الأول من الانتخابات التي جرت في 26 بلدية أواخر كانون الأول من العام الماضي في الضفة الغربية أعطت أكثر من مؤشر إلى أن من المكن أن تكون النتائج كما هي عليه أكثر أو اقل قليلا ، لكن بالاتجاه العام كانت كافة المقدمات تشير إلى أن النتائج واحدة .

من المهم بداية تأكيد احترام إرادة الناخبين الفلسطينيين وخياراتهم في اختيار ممثليهم سواء على مستوى الانتخابات البلدية أو على المستوى السياسي التمثيلي الوطني وفق أرادتهم الحرة ، وهذه الإرادة الحرة كانت كما تشير كافة التقارير بما فيها القوى المشاركة في العملية الانتخابية التي جرت في غزة كانت حرة فعلا ولم يحدث ما يؤثر فعليا وواقعيا على نزاهتها الانتخابات ويشكل مطعنا في شفافيتها ، رغم بعض الملاحظات البسيطة والخروقات التي سجلت هنا وهناك في بعض المراكز التي لم تؤثر في مجملها على العملية ككل .

بيد أن المهم في ذلك أن الديمقراطية الفلسطينية في سياق هذه العملية تتعزز ويصبح صندوق الاقتراع هو الفيصل والحكم بين مكونات الحياة السياسية الفلسطينية ، وهو مدخل مهم أيضا لتكريس التعددية السياسية وانتقال وتدول السلطة بشكل سلمي وديمقراطي.

أما لماذا كانت هذه النتيجة متوقعة فهذا يعود لعدة أسباب :

أولا : إن النظام الانتخابي المتبع والذي تجري على أساسه الانتخابات والقائم على أساس الأغلبية النسبية يعطي الفوز لكتلة تحصل على اقل من 30% من حجم القوة التصويتية في أي موقع من المواقع ، ومن شان هذا النظام والذي جرت على أساسه الانتخابات التشريعية عام 1996 أن يكرس الجهوية والعشائرية ، وان يحرم الأغلبية التصويتية من التمثيل ، وان يرفع من نسبة الأصوات المهدورة ، علاوة على انه يضرب التعددية السياسية لصالح القوى السياسية الكبيرة التي تدخل في تحالفات مع القوى العشائرية والعائلية .

ثانيا : إن هذه الانتخابات رغم محاولات البعض إعطائها أبعاد سياسية أي باعتبارها تصويتا على نهج أو برنامج سياسي ما ، إنما يدخل هذا التحميل من باب القراءة المغلوطة أيضا ، باعتبار أن هذه الانتخابات في جوهرها وطابعها علاوة على النظام الانتخابي الذي تقوم على أساسه هي فردية وذو أبعاد عائلية وعشائرية رغم التداخل الحزبي والسياسي النسبي فيها ، وإلا ما هي دلالات حصول مرشح الرئاسة محمود عباس أبو مازن على غالبية الأصوات في بيت حانون  والشوكة في رفح وهي البلديات التي حصدت فيها حماس أغلبية المواقع ، ولكن رغم أية دلالات أخرى فإن المواطن الفلسطيني قد صوت في الاولى لخيار سياسي يعتقد انه يشكل خشبة الخلاص له من الأوضاع الأمنية والاقتصادية والحياتية السيئة التي يعيشها، وفي الثانية عاقب شخصيات تحكمت وبإدارة سيئة إلى حد ما في مجالس معينة من الحزب الحاكم لمدة عشر سنوات تقريبا ، وحاسبها على إنجازاتها وأفعالها ، ومن هنا وكاستنتاج أولي أيضا فقد لعب اختيار المرشحين من حيث الكفاءة والسمعة الوطنية والاجتماعية  دور هاما في انتخابهم وهو ما أخفقت به حركة فتح ونجحت به القوى الأخرى وتحديدا حركة حماس .

ثالثا :  إن نفس العقلية والمنهج التي حكمت حركة فتح في تعاطيها مع الانتخابات في الضفة قد حكمتها في غزة ، فسيادة روح الهيمنة والإقصاء والامتناع عن التحالف مع الشركاء الآخرين ، والدخول في صراعات داخلية بحيث تكون في كل بلدية أكثر من قائمة ، علاوة على التنافس غير الشريف بما في ذلك التشطيب من ضمن القائمة الواحدة، كل هذه العوامل أدت إلى تشتيت وأضعاف الجهد الفتحاوي وبالتالي الصوت الوطني والديمقراطي.

رابعا : إن القوى الديمقراطية أو ما يسمى بقوى اليسار الفلسطيني لم يتعظ من تجربة الانتخابات في الضفة الغربية وخاض نفس التجربة وبذات العقلية التنافسية الضيقة والمليئة عند البعض بالأوهام عن أمجاد تاريخية غابرة لم تعد لها مقومات في حركة الواقع ، مما افرز نتائج هزيلة ومضحكة في آن معا ، وتم الاكتشاف مؤخرا وفي ضوء النتائج أن الخلل بالنظام الانتخابي فقط، وليس بالعقلية التي تعاطت مع العملية ككل ومارست كما مارس الآخرون منطق الهيمنة والتفرد.

إن القراءة الموضوعية تفترض أن ندقق كثيرا بالنتائج ولا نذهب بعيدا إلى حدود التشاؤم والإحباط ، والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت  وبالإدارة غير الصحيحة للعملية الانتخابية بما فيها التحالفات قد تشكل المدخل الصحيح والضروري لمعالجة الخلل الذي وقع ، خاصة أن هذه العملية مازالت في أولها ومازال هناك متسعا من الوقت لتصحيح الأخطاء السابقة، لمن يريد أن يتعلم من التجربة السابقة ويشتق الدروس والعبر منها .

وقد تكون من النتائج الأولية من قراءة دلالات الانتخابات البلدية في مرحلتها الاولى أن تعزز الاتجاه لدى المترددين والرافضين من أعضاء المجلس التشريعي وخصوصا من المحسوبين على حركة فتح باتجاه تعديل قانون الانتخابات التشريعية ليقوم على أساس التمثيل المختلط أو الموازي بنسبة 50% - 50% للقائمة الوطنية والدوائر الفردية .

كما قد تكزن الفرصة مواتية أكثر لإدارة عملية انتخابية بروح جديدة من الانفتاح والواقعية وبناء تحالفات حقيقية وجدية لإفساح المجال أمام كسر محاولات الهيمنة والاحتكار من جهة، ولكسر سيادة منطق العائلة والعشيرة على الاختيار السياسي ، في ظل عدم أمكانية تغيير النظام الانتخابي في المرحلة الراهنة ، وبما يؤدي إلى الحفاظ على التعددية السياسية في حددها الدنيا ووفقا لما تعكسه هذه القوى من تراكيب على الواقع الفعلي .

كما وتظهر هذه القراءة وفي ظل عدم تمكن حركة فتح من معالجة أوضاعها الداخلية، وإرسائها على قاعدة الانضباط الداخلي ومنع التنافس ما بين اتجاهاتها وأعضائها ، وكذلك لقرار تيار الإسلام السياسي بتلاوينه المختلفة وفي مقدمته حركة حماس من المشاركة في العملية الديمقراطية. أن يعيد النظر التيار الديمقراطي اليساري العلماني ما أمكن النظر وبجدية أيضا بصيغ عمله وبتحالفاته ليشق طريقا ثالثا متخليا عن الأوهام ، ومنطلقا من رؤية واقعية جديدة لخارطة القوى السياسية وبما يمكن هذا التيار من عكس وجوده الفعلي المشتت وغير المنظم والذي يعبر عنه دائما بالصوت الاحتجاجي الرافض أو المعتكف أو المصوت بورقة بيضاء .

 لقد عززت هذه النتائج وكما يبدو ميل تيار الإسلام السياسي وخصوصا حركة حماس من المشاركة الجدية في الحياة السياسية عبر صناديق الاقتراع ، وعلى كافة المستويات ، وهذا وان كان يطرح تحديا جديا وتنافسيا ديمقراطيا أمام القوى السياسية الأخرى ، فإنه يطرح على هذا التيار وخصوصا حركة حماس إعادة النظر ببرنامج وأشكال وأساليب عمله ، بما في ذلك تحالفاته الداخلية والإقليمية والدولية . لكن أيا كان الأمر فإن هذه المشاركة من شانها أن تعزز وتغني الحياة السياسية الفلسطينية وتفتح الطريق أمام هذا التيار للانخراط في النظام السياسي الفلسطيني من موقع الشراكة الفعلية فيه.

الاستنتاج الأخير الذي يتعين التشديد عليه مجددا أن العملية الانتخابية مازالت في بدياتها وطريق الديمقراطية الفلسطينية وان بدى سالكا الآن فيجب أن يتعزز بمزيد من الإصرار على مواصلة المسيرة وليس إلى النكوص والتراجع ، والتلويح لدى البعض من مصدري الخوف وأصحاب المصالح،بابتداع فكرة تكرار تجربة الجزائر مطلع تسعينات القرن الماضي فإن تجربة الشعب الفلسطيني ونضجه وتحليه بالمسؤولية العالية والتي تبدت بعد وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات تؤكد على عدم صحة ولا دقة هذه الأوهام ، فاحترام إرادة الناخبين أمرا لا رجعة عنه ، وينبغي أن تكون الأساس لإعادة بناء وتجديد النظام السياسي الفلسطيني الذي يقوم على  التعددية ويكرس انتقال وتدول السلطة بشكل سلمي وديمقراطي أيا كان شكل وطابع هذه القوة السياسية شريطة أن تحافظ على هذا المبدأ لا أن تتنكر له بعد وصولها للسلطة .

 

رام الله

2005.2.1

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع