أم سليمان



توفيق الحاج

فاجأني الأصدقاء قبل أيام بهدية مغلفة بسؤال أكثر مفاجأة ..
ـ هل ترغب في أن ترافقنا لزيارة أم سليمان ؟!
ـ من ؟!!
ـ أم سليمان … فلسطينية منسية فقدت فلذة كبدها الوحيدة … شهيداً جسوراً سقط على كومة من الطلقات الفارغة ،وبعد معركة ضارية وشرسة حفرت لها مكاناً بارزاً في القلب والذاكرة ..
لم أنتظر ... ولم أجب وإنما لبست حذائي على عجل .. وفي طريقنا عرفت أن المقصودة ..عجوز وحيدة تعودت العزلة المزمنة والإهمال حتى من أقرب رفاق ابنها الذين شغلتهم الحياة الغانية عن أداء أبسط واجبات الوفاء للدم الطاهر ... والذكرى الطيبة ...
وصلنا إلى البيت ... وطرقنا الباب الخارجي المتهالك ... فإذا بصوت منهك مشروخ يرد .
ـ مين ؟!
ـ رفاق سليمان يا حجة ...
ـ مين ؟! … رفاق سليمان ؟! … رفاق سليمان ماتوا وشبعوا موت …!!
أحسسنا بعاصفة من الخجل تجتاحنا ... وتعرينا ... لنبدو أكثر هشاشة من حلوى (شعر البنات) .
لم يطل الوقت .. حتى ظهرت أمامنا عجوز شاحبة اللون امتصت عصارتها سنين الحزن الطويلة .. وألم الفقر والمرض ... أطلقت علينا نيران كلماتها الناضحة بمرارةٍ فاقعة ... وتساؤلات موجعة .
ـ لماذا الآن ... وبعد عشرين سنة من النسيان ؟!
ـ لماذا الآن … يا رفاق سليمان ؟!
لقد تأخرتم كثيراً … لم يعد في إمكاني أن أقدم لكم حتى فاكهة الابتسام .!!
توارينا في كلمات باهتة زادتنا ارتباكاً .. وهلهلة ..
كان ( دشاً ) ساخناً أيقظ بعض خلايانا الحية التي اعتراها صدأ التبلد واللامبالاة ..
جلسنا على حصيرتها كالبلهاء وبدأنا في إعداد الشاي حين أصرت بكرم الأمهات الثاكلات .. وأنصتنا كتلاميذ مطيعين لحديثها العفوي بعد أن هدأت نفسها وأطلقت العنان لذكرياتها ودموعها ... كيف ربت الشهيد ... كيف قاوم ... كيف قاتل ..كيف سقط ..وكيف زغردت وهي تقبله للمرة الأخيرة
كانت أي محاولة لتنظير الموقف أو لحذلقة الأمر تبدو تافهة أمام المشهد المؤثر وهي تقبل التراب قبل أن نلقي معها نظرة على الملجأ الذي كان يتحصن فيه ابنها الوحيد .
حدثتنا ... كيف حملت السلاح بيديها والبرتقال الممنوع في صدرها ومنشورات المقاومة في ( قفتها ) ..لكي تصل إلى رفاق سليمان في المكان المطلوب والموعد المحدد ... رغم العيون والخطر ...
أحسست لحظتها أن غسان كنفاني جسد بإبداعات الفنان المقاوم ( أم سليمان ) في قصته الشهيرة \"أم سعد \" دون أن يراها..
فهتفت في داخلي... \" تعال يا غسان ... ودق على ضلوعنا بالنار كي نخرج من خزان عارنا \"!!
أم سليمان ... هكذا يكافئها الوطن بأبنائه الذين أصبحوا الآن منشغلين بمهامٍ أكثر إلحاحاً ووطنية من السؤال عن أم شهيد ... ومعتقل ..!!
هكذا يقذفها الوطن الملون ب \"200 \"شيكل شهريا... وهكذا ينصفها الرجال الأنيقون.. الذين يتشدقون دائما
بالحديث عن دم الشهداء والتضحيات .. والوفاء .. والأمل ... في الأحاديث الصحفية والمتلفزة ...
هكذا يصبح الحديث عن المناسف أجدى وأكثر نفعاً من الحديث عن المبادئ ...
بعد ساعة..
ودعنا ( أم سليمان ) ... وقبلنا يديها .. وقررنا في فورة الحماسة الطارئة أن نزورها مرة كل شهر... كل ما أخشاه الآن أن يخفت صوت الضمير في صدورنا ... وتتلاشى لسعات سوط الوفاء على ظهورنا .. ونعود نشارك ملوك التنظير والسياسة هواياتهم المفضلة في نسيان تضحيات الأهل ... واللامبالاة المقرفة ...
هزني السؤال ... بكل البراءة ...
ترى كم ( أم سليمان ) بيننا اكتوت بنار التجاهل والوحدة والنسيان ..؟!!
ترى … هل كتب على أناسٍ أن يضحوا بأغلى ما لديهم ..بينما يلهث آخرون لتسلق تضحياتهم نحو بريق المناصب .. والنفوذ والنجوم ؟!
غادرنا المكان …. وهمهمنا بكلمات غير مفهومة … بينما كان صوت فيروز ينبعث في الشارع بمحض الصدفة .. \" زوروني كل سنة مرة … حرام تنسوني بالمرة \" …

تتمة لابد منها:
أتصل أحدهم وابلغني أن \"أم سليمان\" غادرت ساء اليوم وفي أثناء كتابة هذا المقال أرض الرفاق متجهة إلى الرفيق الأعلى..!!

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع