المفاوضات بين المعارضة الفلسطينية
وإسرائيل
البروفيسور عبد الستار قاسم
نقلت وسائل الإعلام أخبار لقاء مدير المخابرات المصرية مع قادة حماس
والجهاد الإسلامي، وأخبار زيارة المدير لإسرائيل للقاء شارون. وتتوارد
الأنباء عن الاجتماع الرباعي الذي يضم مصر وإسرائيل والأردن والسلطة
الفلسطينية في شرم الشيخ. نشاطا مدير المخابرات متتاليان وواضح أنهما
مرتبطان بالتتابع وبالموضوع، ومرتبطان أيضا بمؤتمر شرم الشيخ. نقل
المدير ما سمعه من القادة الفلسطينيين سواء كانوا معارضة أو سلطة إلى
شارون استكمالا لجهود التهدئة بين الإسرائيليين والفلسطينيين تمهيدا
لاستئناف المفاوضات، وسيوظف مؤتمر شرم الشيخ وقتا طويلا لمناقشة طرح
حماس والجهاد. هناك مفاوضات غير مباشرة تجري بين المعارضة الفلسطينية
وإسرائيل، ومدير المخابرات المصرية ليس الوسيط الوحيد. السلطة
الفلسطينية عبارة عن وسيط أيضا منذ سنوات بخاصة أثناء المحاولات
السابقة لإقامة هدنة.
إذا
تتبع الدارس المسار الفلسطيني الرسمي، من السهل أن يجد أن المعارضة
تتخذ مقاربة متشابهة وليس متطابقة لمشهد الموقف الرسمي من التفاوض مع
إسرائيل. بدأت منظمة التحرير مسيرتها برفض إسرائيل قطعيا ورفض التفاوض
وكل أشكال الحل السلمي، ثم تدرجت نحو المبادرات السياسية والتفاوض غير
المباشر إلى أن وصلت إلى التخلي عن الثوابت الفلسطينية والتفاوض مع
إسرائيل والقبول بالمحرمات التي كان يوصف المقترب منها بالخائن. أبدت
حماس والجهاد مواقف واضحة من فلسطين واعتبرتاها أرض وقف إسلامي غير
خاضعة للمساومة، وأوضحتا أن السلام مع إسرائيل محرم. ترفض الحركتان
فكرة التفاوض قطعيا، لكنهما على استعداد للتعامل مع من يفاوض.
من
الوارد جدا أن الحركتين لم تتخليا عن أي موقف مبدئي والدليل على ذلك أن
أحدا من قادة الحركتين لم يصرح بأي شيء يشير إلى التخلي عن فلسطين أو
القبول بتنازلات. ما يزال التفاوض محصورا بمسألة الهدنة من حيث شروطها
الزمانية والوقف التبادلي للنشاطات. لكن هذا لا يمنع من إبداء بعض
الملاحظات الهامة سلوكيا والتي يترتب عليها استعداد معنوي نفسي.
كسرت الحركتان الحواجز السياسية والوطنية التي بينتاها في أدبياتهما
بتعاملهما المباشر مع الحكومة المصرية التي تعترف بإسرائيل وتتبادل
معها العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية. ربما لم تغير
الحركتان قناعتيهما النظرية حول هذه المسألة، لكنهما غيرتاهما من
الناحية العملية. أصبح ما يعرف في أوساط المعارضة الفلسطينية بأنه نظام
كامب ديفيد العامل المساعد في التفاوض أو الوسيط. ينطبق هذا أيضا على
السلطة الفلسطينية التي تعتبرها الحركتان سلطة لا تمثل الشعب
الفلسطيني. ترفض الحركتان اتفاق أوسلو وما تمخض عنه من اتفاقيات،
وتريان في السلطة إفرازا غير نظيف لهذه الاتفاقيات. ومع هذا تعقدان
الاجتماعات المتكررة معها ومنذ سنوات.
كسرت الحركتان أيضا حواجز التفاوض العسكري والذي تعرض لانتقادات حادة
من قبل الكثيرين من العرب والفلسطينيين في السبعينيات من القرن الماضي.
لم تسلم مصر من النقد الحاد بسبب عملية التفاوض العسكري المباشر مع
إسرائيل عام 1973، ولم تنج سوريا من الانتقادات نظرا لتفاوضها غير
المباشر مع إسرائيل عبر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك.
المشهد يتكرر الآن فلسطينيا على الرغم من اختلافات في التفاصيل. ساقت
مصر أسبابا دولية تتعلق بالتوازن العسكري في المنطقة لتبرير محادثات فض
الاشتباك ومن ثم محادثات كامب ديفيد، وساقت قيادة منظمة التحرير ذات
الأسباب لإقناع الشعب الفلسطيني أن الثوابت الفلسطينية لم تعد مجدية
أمام ضغط التوجهات السلمية.
كان
من الممكن خلال سني الانتفاضة أن تقوم فصائل المقاومة الفلسطينية
بتهدئة الأوضاع العسكرية من جانب واحد ودون الدخول في تفاوض غير مباشر.
تقول جدلية بعض الفلسطينيين شعبيين ورسميين بأن الشعب الفلسطيني قد تعب
بسبب الضائقة الاقتصادية والإجراءات الإسرائيلية الأمنية المكثفة التي
أثرت بصورة كبيرة على سير الحياة الاعتيادية للشعب. على الرغم من أن
هؤلاء يحملون إسرائيل المسؤولية في وسائل الإعلام، إلا أنهم يلومون
المقاومة الفلسطينية بالدرجة الأولى على اعتبار أنها تقوم بأعمال
مقاومة بسيطة تأتي بأعمال إسرائيلية تدميرية ضخمة. كثير من اللوم تحوز
عليه عملية إطلاق الصواريخ التي يقول منتقدوها بأنها تحدث ضررا بسيطا
في الجانب الإسرائيلي الذي يصب جامّ غضبه على الناس والممتلكات. هؤلاء
حقيقة لا يدركون الفرق بين التأثير الأمني والبعد العسكري لهذه
الصواريخ، لكنهم قادرون على استقطاب من يؤيدهم بخاصة من الفئات التي
يصيبها ضرر مباشر.
إنه
من المهم إعطاء الشعب فرصة للتنفس حتى لا يصيبه إنهاك. الشعب هو مصدر
قوة المقاومة، وإذا أصابه إعياء فإن المقاومة ستصاب بذات الداء. كان من
المفروض أن تتبنى المقاومة تكتيكا يمكنها من استشعار هموم الناس
واستعداداتهم وتوجهاتهم، مما يمكنها بالتأكيد من اتخاذ القرار الصحيح
بمعزل عن الضغوط أو الانجرار نحو أعمال تكره القيام بها أو تأتيها
بالانتقادات. لكن حتى يتسنى ذلك، المفترض أن تتوفر غرفة عمليات مشتركة
لفصائل المقاومة الفلسطينية تنسق مختلف أعمال المقاومة، أو، على الأقل،
أن تكون فصائل المقاومة قادرة على الالتقاء والتنسيق السياسي الأمني
فيما بينها.
غرفة العمليات المشتركة غير موجودة، واللقاء السياسي الأمني الجاد على
مستوى القيادات غير موجود. المعارضة الفلسطينية غير قادرة على الالتقاء
على طاولة واحدة مستقلة، والطاولة الوحيدة التي تجمع أقطابها هي طاولة
السلطة الفلسطينية، أو طاولة مدير المخابرات المصرية. جرت محاولات
ودعوات عدة لجمع المعارضة على برنامج مؤقت موحد، لكنها باءت جميعها
بالفشل. وجرت محاولات لإقناع الأقطاب بضرورة وضع روزنامة (إجندة) أو
جدول للحوار مع السلطة قبل الجلوس الإعلامي لكنها فشلت أيضا.
هناك مشكلة كبيرة على الساحة الفلسطينية تتمثل في ضياع البعد العلمي في
خضم التنافس أو المزايدة الفصائلية. من الصعب أن نجد فصيلا يدعو إلى
تهدئة الأمور وفق رؤية فلسطينية لأنه سيتعرض بالتأكيد لانتقادات فصائل
أخرى تحاول دائما أن ترفع من شعبيتها مهما كان الثمن. هناك استغلال غير
متزن لمواقف الأشخاص والفصائل والأحزاب مما يدفع الفهم المتبادل إلى
التراجع أمام التشهير. ولهذا تحتاج الفصائل لمن يجمعها ليكون هناك موقف
واحد لا يسمح بالمزايدات.
أما
غرفة العمليات المشتركة فكانت ضحية العلنية في عمل فصائل المقاومة.
دخلت المقاومة في تناقض عندما تبنت العمل الجماهيري مع السلاح. أصبح
السلاح أداة تخدم التأييد الجماهيري لهذا الفصيل أو ذاك بدل أن يكون
العكس. ولهذا أصبحت غرفة العمليات المشتركة عائقا أمام الرغبة في تحقيق
مدّ جماهيري واسع للفصيل. وهذا بالتحديد ما حال دون السرية في العمل
الفلسطيني مما جعل القيادات في متناول الآلة العسكرية الإسرائيلية،
ومما جعل منها أيضا عنوانا يمكن ممارسة الضغوط عليه. ليس من السهل أن
تفلت القيادات الفلسطينية لحماس والجهاد من التفاوض غير المباشر مع
إسرائيل عبر قنوات عدة لأن الظرف الموضوعي الذي نجم عن الأداء الذاتي
يشكل مصيدة يصعب الإفلات منها. شاءت قوى المقاومة أو لم تشأ، إنها
الحاضر الغائب على طاولة المداولات في شرم الشيخ. المفاوضات غير
المباشرة بين إسرائيل والمقاومة قائمة على الرغم من محاولات هروب
الطرفين من الحقيقة.
|