ماذا لو مات ياسر عرفات..؟
تحليل سياسي
الجمعة 29 تشرين الأول 2004
بقلم
شاكر
الجوهري
السؤال يضع في الإعتبار أن الموت حق، لكنه يركز الإهتمام على
الإحتمالات الفعلية، والتداعيات السياسية المتوقعة لمثل هذا الحدث.
المعلومات المتحصلة لدى "العرب"، تؤكد أن الرئيس الفلسطيني مصاب
بانفلونزا حادة جداً هبطت ـ كما هي العادة لديه ـ إلى المعدة والإمعاء،
وهذا ما
يسبب له حالة تقيؤ، وربما اسهال، تفقده القدرة على امتصاص جسمه للمواد
الغذائية
الضرورية لبقائه على قيد الحياة، ما يؤدي إلى انهاك جسده بشكل تدريجي
لا يعود معه
قادراً على العمل، وفي وقت لاحق قد يصبح غير قادر على الحياة.
لذلك، فإن حديث مسؤولين فلسطينيين عن ثبات حالة الرئيس يدعو إلى
التشاؤم ولا يدعو لأي قدر من التفاؤل، وإن كانت لم تتدهور بعد على نحو
خطير، لكن
هذا
يظل متوقعا ما لم يتمكن الأطباء من وقف حالة التقيؤ والإسهال. وهي
الحالة التي
تفرض زرقه بمواد غذائية تساعده على البقاء على قيد الحياة، اضافة إلى
ضرورة معالجة
حالة الغثيان المصاحبة للتقيؤ المصاب به.
الأخطر من ذلك هو احتمال اصابة عرفات بمضاعفات قد تطرأ على امراض
أخرى عديدة مصاب بها، وظلت تحت السيطرة طوال السنوات السابقة، اخطرها
مرض باركنسون،
أو
الرعاش الدماغي الذي اصابه جراء حادث سقوط طائرته في جنوب الصحراء
الليبية في
السابع من نيسان/ابريل 1992. وفي هذه الحالة، قد يصبح عرفات غير قادر
على أداء مهام
عمله، حتى لو لم يمت.
لا
يوجد نائب معلن للرئيس الفلسطيني، فهو ظل يرفض على الدوام تعيين
أو
انتخاب نائب له منذ أن تم اختيار المرحوم ابراهيم بكر نائباً لرئيس
اللجنة
التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الثمانينيات.. ذلك أن بكر
اختلف مع عرفات
بشكل علني بسبب سياساته، وتحول إلى مناوأته. ولهذا اعتاد عرفات أن يرد
على كل من
يفاتحه في مسألة اختيار نائب له "عملتها مرة ولن اعيدها بالمرة".
قياسا على ذلك، رفض عرفات، وهو في حالته الراهنة تشكيل لجنة ثلاثية
تتولى قيادة السلطة الفلسطينية بشكل مؤقت ريثما يتشافى من مرضه، أو
بشكل انتقالي
ريثما يتم انتخاب رئيس بديل للسلطة الفلسطينية. ولوحظ أن الأسماء التي
اقترحت
لتتشكل منها اللجنة تمثل شيئا من المزاوجة بين السلطة الفلسطينية
ومنظمة التحرير،
مع
أن الأسماء الثلاثة هي لأعضاء في اللجنة المركزية لحركة "فتح"، وإن كان
محمود
عباس (أبو مازن) قدم استقالته من عضوية اللجنة منذ أكثر من عام، وقبل
الإطاحة
بحكومته، وكذلك من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية،
التي يشغل
أمين السر فيها. فالعضوان الآخران يمثلان السلطة الفلسطينية، بالنسبة
لأحمد قريع
رئيس حكومة السلطة، ومنظمة التحرير بالنسبة لسليم الزعنون رئيس المجلس
الوطني
الفلسطيني.
عرفات رفض تشكيل هذه اللجنة على الأغلب لسببين رئيسين:
اولهما: حتى لا يقر بوجود من ينوب عنه.
ثانيهما: حتى لا يجد نفسه في موقع المطالب بإبلاغ بعض الأسرار
والخفايا لهذه الجهة التي لا يريدها أن تنوب عنه. وفي مقدمة ما ظل
عرفات يرفض
الإقرار والبوح به هو مقدار ومكان ايداع اموال طائلة تعود لمنظمة
التحرير
الفلسطينية وحركة "فتح"، يقدرها رفيق النتشة رئيس المجلس التشريعي
السابق بمليارات
الدولارات، فيما تقدرها جهات أخرى بعدة مئات من الملايين.
وحين مورست ضغوط على عرفات يوما بشأن ضرورة الكشف عن حجم ومكان وجود
الأموال التي ظل يتصرف بها منفردا منذ أن اطاح بمحمود عباس من موقع
مفوض الشؤون
المالية في حركة "فتح"، قال لأعضاء مركزية "فتح" ذات مرة إنه حين يموت
سيأتي من
يخبرهم أين توجد اموال الحركة، لكنه رفض أن يخبرهم حتى باسم هذا الشبح..!
يجدر أن نلاحظ هنا أن اللجنة الثلاثية التي يرجح أن يكون محمود عباس
هو
من اقترح تشكيلها تمثل مخالفة لنص المادة54/2 من القانون الأساسي
الفلسطيني التي
تنص
على أنه "إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية في أي من الحالات السابقة
يتولى
رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتا لمدة
لا تزيد عن
ستين يوما تجرى خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد وفقا
لقانون
الإنتخابات الفلسطيني".
لكن
أبو مازن يغفل في اقتراحه روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي
الفلسطيني بشكل نهائي، ويختار لعضوية اللجنة الثلاثية حليفه السابق،
الذي تصالح معه
مؤخرا (أحمد قريع)، وحليفه الحالي سليم الزعنون، حيث أنه يريد، وهو
المستقيل من
عضوية اللجنة التنفيذية، أن يتكىء على شرعية رئيس المجلس الوطني
الفلسطيني، وهو
يعمل على تنحية فتوح جانباً، عبر تفعيل شرعيات تنظيمية لغايات استلاب،
وتطويق أي
دور
متوقع لحليفه السابق العقيد محمد دحلان..!
الذين يعرفون كيف يفكر أبو مازن يدركون أنه لا يمكن له أن يقبل بأن
تؤول القيادة الفلسطينية لغير واحد من كرادلة "فتح"، الذين لم يتبق
منهم غيره،
وفاروق القدومي أمين سر حركة "فتح"، الذي هو على خلاف سياسي، وقطيعة
شخصية معه،
وسليم الزعنون. فهو لا يمكن أن يقبل بأن تؤول الأمور إلى روحي فتوح
الذي دفع باتجاه
تعديل قانون الإنتخاب الفلسطيني كي يسمح لرئيس المجلس التشريعي بترشيح
نفسه
للرئاسة.. كما أنه لا يمكن أن يقبل بأن تؤول القيادة إلى محمد دحلان.
وفي
اطار الإستعدادات لخلافة الرجل الذي ظل يقاوم ويتحدى الإصلاح حتى
آخر
لحظة سبقت مرضه، بل وتزامنت معه، فإن فتوح اقام منذ زمن تحالفا خفيا مع
دحلان،
وكذلك مع محمد رشيد (خالد سلام) الذي يدير لحساب عرفات عدة مئات من
ملايين
الدولارات يطمح فتوح ـ دحلان للحصول على حصته فيها لغايات الإنفاق على
الذات
والأنصار والأزلام، فيما يرجح أن يعمد رشيد إلى الإستحواذ عليها لنفسه
منفرداً، وهو
الكردي من أصل عراقي..! في ذات الوقت الذي عمل فيه فتوح على ادامة
تحالفه مع عرفات.
وبفضل التحالف الأخير نجح في الوصول لرئاسة المجلس التشريعي، ثم لم يعد
يبدي
اهتماما بإخفاء تحالفه مع دحلان.
لكن
فتوح لن يتمكن من الحصول على دعم على الأرض لدوره الذي يوشك أن
يسلب منه. ففي قطاع غزة باتت القوة العسكرية الرئيسة تخضع لقيادة
اللواء موسى عرفات
إبن
عم الرئيس، والأمن الوقائي لا يمكنه الصمود في مواجهة الأمن العام
والأمن
الوطني اللذان يقودهما عرفات، فضلا عن الإستخبارات العسكرية. ودحلان لم
يعد يملك من
القوة العسكرية ما يؤهله لغير مواجهة فاشلة.. خاصة وأن حركة "حماس"
التي تتوقع أن
تصبح الهدف الأول لسلطة يقودها فتوح ـ دحلان ستجد نفسها مضطرة للعب دور
عسكري عند
الضرورة في اطار لعبة ترتيب، أو اعادة ترتيب قيادة البيت الفلسطيني.
الفصائل الأخرى في منظمة التحرير الفلسطينية لن تقر بقيادة فتوح ـ
دحلان، وستجد نفسها مضطرة للتعامل مع محمود عباس باعتباره أمين سر
اللجنة التنفيذية
لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي يسهل تخريج سحب استقالته منها،
وباعتباره رئيس
الوزراء السابق الذي لم يندفع لمقاتلة "حماس" والجهاد الإسلامي، وحاول
أن يجد
تخريجة الهدنة بينهما وبين اسرائيل، بدلاً من العمل على تفكيكهما، كما
تنص خارطة
الطريق. ووفقا لأدق المعلومات، فإن خالد مشعل رئيس المكتب السياسي
لحركة "حماس"
سارع إلى مهاتفة أبو مازن لدى استقالة حكومته، فيما يشبه المحاولة
لثنيه عن
الإستقالة، حتى لا تجد "حماس" نفسها في مواجهة مع حكومة بديلة يقودها
من هو أكثر
استعداداً لقبول الإملاءات الأميركية ـ الإسرائيلية، وبحرفيتها..!
الكتائب التي اصدرت مؤخراً بيانا هاجمت فيه بعنف غير مسبوق
"المتنفذين
في حركة فتح"، وكذلك "المندسين والفاسدين في الحركة" الذين قالت إنهم
"خانوا
التراث الفتحاوي"، واتهمت "قيادات الشر" بالتعاون مع الإحتلال
في
تسليم
الشرفاء، وهددت بمغادرة حركة "فتح" ومعها آلاف الفتحاويين ما لم يوضع
حد للفساد
والمفسدين، يرجح أن تعمد في حالة وفاة عرفات إلى تهدئة التصعيد الذي
بادرت إليه،
بأمل أن تؤدي ترتيبات الخلافة إلى تفعيل دورها، واستئصال بعض رموز
الفساد والإفساد
الذين ظلوا يحصلون على الدعم والحماية حتى الآن.
بالطبع، فإن القراءة السابقة تعّول على مواقف الجهات الفاعلة في
الساحة الفلسطينية من أجهزة سلطوية وفصائل أخرى، دون اعطاء اهمية مبالغ
فيها لدور
اللجنة المركزية لحركة "فتح"، وإن كان قرارها بتشكيل لجنة تحقيق مع
دحلان بشأن
الفساد الذي ارتكبه والمواقف والممارسات العسكرية والسياسية والإعلامية
الأخيرة،
يعتد به ويوظف لمحاصرة طموحات القائد السابق للأمن الوقائي في قطاع غزة.
أما
العميد جبريل الرجوب، مستشار الشؤون الأمنية لعرفات، وقائد الأمن
الوقائي السابق في الضفة الغربية الذي يحافظ على تحالفه مع مروان
البرغوثي أمين سر
مرجعية حركة "فتح" السابق في الضفة الغربية، المحكوم في السجون
الإسرائيلية فلا
يزال يمتلك نفوذاً على جهازه السابق، فضلا عن مكانته داخل التنظيم.
وهذا ما يؤهله
للعب دور مؤثر في تحجيم دور وطموحات الثنائي فتوح ـ دحلان، ربما من
خلال تركيزه على
تفعيل دور اللجنة المركزية لحركة "فتح" التي كان قد انتقدها بشكل علني
قبل دحلان،
لكنه يصر الآن على عدم الخروج على الأطر.
بإختصار، إن ميزان القوى على الأرض، لا المؤسسات، هو الذي سيلعب
الدور الأساس في ترتيب خلافة عرفات، الذي نكرر ثانية أن صحته لا تؤهله
لموت سريع.
ولهذا، يحرص ارئيل شارون على المزاوجة في توظيف مرض عرفات مع
الإنشغالات الأميركية
في
الإنتخابات الرئاسية ليوافق فقط على خروج عرفات لتلقي العلاج، دون
تقديم ضمانات
بالسماح له بالعودة. فموت عرفات أو ابعاده على سبيل العلاج، يحققان
لشارون خطوة
هامة على طريق تدمير ما تبقى من المشروع الوطني الفلسطيني، ونواة
الدولة الفلسطينية
التي مثلتها اتفاقات اوسلو.
وها
هي الولايات المتحدة الأميركية تعطي ضوءاً أخضر، وإن كان مواربا،
لشارون كي يفعل ما يحلو له، ما دامت شدة التنافس بين بوش وكيري تجعله
ليس في وارد
ترف
التضحية، ولو ببضعة من اصوات الناخبين اليهود، الذين تلتف غالبيتهم حول
كيري،
اليهودي الأصل. فها هم مسؤولو ادارة بوش يكتفون بالقول إنهم على علم
بالمعلومات
الصحفية حول حالة عرفات ويرفضون تقديم المزيد من المعلومات، أو ايضاح
موقفهم من
مصير الرجل الذي شغلوا الدنيا من أجل حياته حين سقطت طائرته عام 1992،
كي يوقع على
التنازلات والإملاءات التي يريدون.
انتهت
|