شاكر الجوهري
كاتب ومحلل سياسي - الأردن
8/19/2004
من الذي أحدث كل الفساد الذي
يحاربه عرفات..؟!
خطوة إلى الوراء على طريق
الإصلاح..!
بهذا نقيم الخطاب الذي القاه ياسر عرفات رئيس السلطة
الفلسطينية أمام المجلس التشريعي الفلسطيني مساء الإربعاء، نستند في
ذلك إلى نص
الخطاب ذاته، إذ يذكر عرفات اعضاء المجلس التشريعي بحضور الحكومة ورجال
السلك
الدبلوماسي والقنصلي المعتمد لدى سلطته بأنه سبق أن أطلق في
حزيران/يونيو 2002
برنامجا للإصلاح عبر خطاب القاه في حينه امام ذات المجلس، ليدعو بعد
ذلك مباشرة إلى
اطلاق ورشة للإصلاح الشامل تشمل جميع مناحي عمل السلطة.
عرفات بهذه الدعوة يريد اشغال الشعب الفلسطيني،
وممثليه عن برنامج الإصلاح الذي اطلقه هو نفسه عام 2002 كي يشغل به
الناس عن برنامج
الإصلاح الذي أقره المجلس التشريعي عام 2000، وبرنامج الإصلاح الذي
اقره المجلس
الثوري لحركة "فتح" واعتمدته اللجنة المركزية للحركة.. عرفات يريد
اشغال الناس عن
كل ذلك، بل إنه يريد طي صفحات وبرامج الإصلاح التي عرقل تنفيذها في
حينه بإصرار،
بورشة للإصلاح الشامل "تسعى عبر برنامج عمل (جديد) متكامل لإنجاز كل ما
يمكن
انجازه"، وليقوم هو ببذل كل ما يستطيع من جهد ورشى لعرقلة تنفيذ
المشروع
الجديد..!
نحن لا نفتري على الرئيس الفلسطيني بحرف واحد مما
نقوله، وهو تبرع (ساخرا) بتأكيد ما نذهب إليه عبر اضافات ارتجلها على
نص الخطاب
المكتوب، ليضيف بها إلى اسبابنا اسباباً.
الجميع يعلم:
اولا: أن عرفات ركن مشروع القانون الأساسي للسلطة
الفلسطينية في درجه، بعد أن أقره المجلس التشريعي واحاله إليه للمصادقة
عليه، قرابة
الخمس سنوات.
ثانيا: أن عرفات صادق على القانون الأساسي للسلطة
رغما عنه، جراء ضغوط المجتمع الدولي، وخاصة دول الإتحاد الأوروبي
والولايات المتحدة
التي اوقفت التعامل معه.. وكذلك تحت ضغط المجلس التشريعي والفصائل
الفلسطينية،
والشعب الفلسطيني.
ثالثا: أن عرفات يعرقل تنفيذ وتطبيق القانون الأساسي
منذ أن صادق عليه مكرها، وحتى الآن.
رابعا: أن عرفات عرقل اقرار مشروع الدستور المؤقت
الفلسطيني من قبل المجلس المركزي الفلسطيني مطلع 2003، وأنه لا يزال
يعرقل التوصل
إلى صيغة نهائية للدستور تتم احالتها إلى المجلس التشريعي لإقراره..
رغم أن ذلك
خطوة اشتراطية من المجتمع الدولي على طريق اقامة الدولة الفلسطينية.
خامسا: أن عرفات يرفض المصادقة على كم كبير من
القوانين الهامة، وخاصة الإصلاحية، التي احالها إليه المجلس التشريعي
للمصادقة، كما
أنه يعرقل تطبيق العديد من القوانين التي صادق عليها مكرها لهذا السبب
أو ذاك،
طالما أن القانون الذي يحبذه هو مصلحته الشخصية كما يراها في اللحظة
التي يتخذ فيها
أي قرار.
سادسا: أن عرفات، وبعكس ما يدعيه في خطابه من حث على
انجاز القوانين اللازمة للرقابة المالية والإدارية والكسب غير المشروع
وقانون
التقاعد هو الذي يعرقل اصدار هذه القوانين تحديداً، وهو خاض معركة
قاسية مع حكومة
محمود عباس (أبو مازن)، تحديدا ضد قانون التقاعد. ولأن موقفه الحقيقي
لا يزال ضد
اصدار هذا القانون فإنه يبدي استعداده في ذات الفقرة من ذات الخطاب
للإجتماع مع أي
من اعضاء المجلس التشريعي، أو أي من لجانه ومن "يحب يحاسبني بيني
وبينه" لمناقشة
هذه القوانين. وبالطبع، فإن الهدف هو فرض وجهة نظره في صياغتها..!
سابعا: أن عرفات، وبعكس ما يقوله في خطابه من أنه
"تم
انجاز خطوات خلال العامين الماضيين لإصلاح وضع الجهاز القضائي والمحاكم
لتعزيز
استقلاليتها"، فإنه هو نفسه الذي يوقف تنفيذ قرارات المحاكم، ليس فقط
حين يتعلق
الأمر بإطلاق سراح معتقلين ابرياء تريدهم اميركا واسرائيل أن يظلوا
محبوسين، كما هو
الحال في العديد من القضايا، ولكن حين يتعلق الأمر كذلك بقرارات قضائية
تستهدف
الفساد، كما هو الحال بالنسبة للقرار القضائي المتعلق بإعادة بنك
فلسطين الدولي
لأصحابه..!
ثامنا: أن عرفات هو الذي يعرقل حتى الآن الإصلاحات
الأمنية، بالرغم من اضطراره مكرها لإقرار خطة تقضي بتوحيد الأجهزة
الأمنية في ثلاثة
جراء ضغوط اللجنة الرباعية، ومصر والأردن. وهو تحديداً يرفض اتباع
الأجهزة الأمنية
لرئيس الوزراء ووزير الداخلية، ويصر على الإبقاء على وزير الداخلية
الحالي حكم
بلعاوي الذي فرضه على حكومة أحمد قريع (أبو علاء).
وفي خطوة التفافية على الإصلاحات الأمنية المطلوبة،
اوعز لبلعاوي أن يجري مناقلات على مستوى قادة الشرطة في المحافظات
والمدن
الفلسطينية. ولا يستدعي الأمر أي تذكير، ذلك أن الذاكرة لم تنس بعد أن
قريع تقدم
باستقالته من رئاسة الحكومة مؤخراً، وظل مصراً عليها لعدة اسابيع حتى
رضخ عرفات في
نهاية الأمر، ووافق على اجراءات شكلية زعم أنها تلبي مطالب الإصلاح
الأمني..!
تاسعا: أما الإصلاحات المالية التي نفذها الدكتور
سلام فياض وزير المالية، رغما عن عرفات، بعد أن عين في منصبه ابتداء
كذلك رغما عن
عرفات، فإنه ينسبها أيضا لنفسه متجاهلا جملة حقائق يعرفها الجميع:
ـ أن الإصلاحات التي اجراها سلام فياض استهدفت الخلل
والفساد المالي الناجم عن قرارات ومسلكيات الرئيس شخصيا.
ـ أن عرفات قاوم هذه الإصلاحات ولا يزال، وأنه لم
يوافق على دفع رواتب العاملين في وزارات ومؤسسات واجهزة السلطة عبر
البنوك إلا بعد
أن هددت الدول الأوروبية، بل بعد أن اوقفت الدول الأوروبية دفع رواتب
السلطة، التي
كان "يخنصرها" سيادة الرئيس..!
ـ أن عرفات لا يزال يرفض تسليم ما بحوزته من
استثمارات واموال منظمة التحرير الفلسطينية لوزارة المالية..!
ـ أما عن اموال "فتح"، فحدث ولا حرج، حيث أن قيادة
"فتح"
نفسها لا تعرف مقدار ومكان وجود هذه الأموال، كما يقول رفيق النتشة
رئيس
المجلس التشريعي السابق الذي اطاح به الفساد.
ـ أن عرفات يشهر بشخص وزير ماليته من خلال وسائله
المختلفة اعتراضاً منه على الإصلاحات التي يحدثها على النظام المالي
الفلسطيني. وفي
اطار الإساءة للرجل، سرب عرفات للإعلام رسالة تلقاها من فاروق القدومي
رئيس الدائرة
السياسية لمنظمة التحرير يصف فيها الوزير سلام بـ"كرزاي" في معرض
اعتراضه على وقفه
صرف موازنة الدائرة السياسية.
كل ما سبق يدعو للتساؤل ما إذا كانت اسرائيل وحدها
من عاث في الوطن الفلسطيني..؟ ومن الذي احدث كل هذا الفساد، إن كان
عرفات هو من
يتولى انجاز برامج الإصلاح..؟!!
التساؤل يبدو في حد ذاته مضحكا في ضوء ما يعرفه كل
الناس، وفي المقدمة منهم ياسر عرفات نفسه، الذي لم يتردد يوما في شرح
نظريته الخاصة
المتعلقة بالقيادة.
يروى أن عرفات بالغ يوما، ودون سبب، في تحقير واهانة
وألمس بكرامة أحد كبار القادة العسكريين في حركة "فتح" بحضور عدد من
الكوادر. وقد
طالت شتائمه أم وأخت وزوجة الضابط الكبير، ثم طرده من مكتبه، وكان ذلك
في دمشق.
وفور أن خرج الضابط، تجرأ أحد الحضور وسأل عرفات كيف يفعل هذا..؟ وألم
يخش أن يرد
عليه الضابط بشتائم مقابلة..؟ رد القائد العام قائلا "ما يقدرش.. دانا
مبارح وقعتله
على مساعدة بعشرين ألف ليرة"..!!
ومن حق الجميع أن يسأل: كيف يمكن للقائد العام أن
يحرر فلسطين بقادة وضباط لا كرامة لهم، لأن كرامتهم هدرت على يديه..؟!
ويؤكد الخبيرون بنظرية القيادة لدى عرفات أنه كان
يتفنن في اذلال مساعديه واكرامهم(..!!) بهدف قتل أية امكانية لبروز
شخصية قوية لدى
احدهم يمكن أن تمثل مركز استقطاب لأحد.. ذلك أنه يجب أن يظل هو القطب
الأوحد.
وتلعب الإكراميات المالية دوراً مكملاً لعملية
الإذلال لأنها تقدم ثمن الإذلال، وتقدم جميع القادة للقاعدة باعتبارهم
فاسدين..!!
هذه النظرية لعبت دوراً بالغ الأهمية في ايصال
الثورة الفلسطينية إلى اوسلو، وكل ما اعقبها من أداء الأجهزة الأمنية
لجهة الفساد
الذي اكتساها، والقمع الذي مارسته بحق شعبها، والتقاعس الذي اظهرته من
خلال عدم
التصدي للإقتحامات والإحتلالات الإسرائيلية..
لقد حول عرفات مناضلي الثورة إلى اجهزة أمنية تنتظر
الراتب آخر الشهر بعد أن كانت تنتظر ملاقاة العدو..!!
وها هو عرفات يشكو في خطابه الإصلاحي امام المجلس
التشريعي من أن اسرائيل لم تبق لسلطته غير سجن واحد، ونظنه سجن اريحا،
حيث تحرس
قوات اميركية وبريطانية أحمد سعدات أمين عام الجبهة الشعبية عقابا له
لأن جبهته ردت
الصاع الإسرائيلي بمثله عندما قتلت رحبعام زئيفي وزير السياحة مقابل
الشهيد أبو علي
مصطفى امينها العام السابق.
وليته اكتفى بذلك، لكنه تجاوزه إلى التذكير بمصير من
يطالب بالإصلاح أو يحاول التماهي معه..
فعرفات بعد أن يدعي أنه هو الذي استحدث منصب رئيس
الوزراء باعتباره خطوة اصلاحية، وكأن الناس لا تعرف أن الضغوط
الأميركية المتماهية
مع مطالب الفلسطينيين هي التي فرضت عليه ذلك، بأمل التقليل من فساده
وافساده،
يفاجىء اعضاء المجلس التشريعي بتكليفهم "اللي يشوفوا (أبو مازن) يسلم
لي
عليه"..!!
أما أبو علاء الذي يقدم كل التنازلات التي يطالب بها
عرفات، فهو يؤكد للمجلس التشريعي ثقته "بأخي ورفيق دربي أبو علاء، رغم
انفكم"..!
وماذا تعني "رغم انفكم"
هذه..؟
إنها تعني بالضد من كل مطالباتكم بالإصلاح التي
تنازل عنها قريع عمليا برغم كل التمسك العلني واللفظي به، وبالطبع، فإن
الثمن في
هذه المرة أكثر من عشرين ألف ليرة سوري.. إنه يتجاوز ذلك إلى طي ملف
فساد هو
الأخطر، من طراز تزويد مصنع أبو علاء لمستوطنة جبل أبو غنيم بالخلطات
الإسمنتية
الجاهزة..!!
أما من لا يتعظ من مصير أبو مازن، وانحناء أبو علاء
لموج عرفات، ولا يفرح بالإكراميات الرئاسية ويكتفي بها، فقد يتعظ من
ادانة عرفات
لاستخدام اسرائيل "للدمدم اللي ضربوا به نبيل عمرو المحرم دوليا"، دون
أن يخبرنا
لماذا يصر عمرو بعد محاولة اغتياله على مواصلة المطالبة بالإصلاح
بالذات..؟!
وما دام الأمر كذلك، فإن عرفات وجد أنه مناسبا أن
يبلغ اعضاء المجلس التشريعي "إديش منكم بيوشوشو لكن الجن بيوسوس أكثر
منكم".
وبالطبع، لا لزوم لأن يخيرهم أي جان هو الذي يعنيه..!
في مثل هذا السياق للحديث عن الإصلاح، لا توجد أية
ضرورة لأن يحدد الرئيس الفساد الذي يريد محاربته، ولا الإصلاحات التي
يريد تحقيقها
باستثناء امرين:
الأول: وهو بالغ الجدية فيه، ويتعلق بوقف العمليات
الإستشهادية والمقاومة المسلحة للإحتلال من قبل حركتي "حماس" والجهاد
الإسلامي،
وكتائب شهداء الأقصى، وذلك عبر التأكيد على التزامه بالوقف المتبادل
لاستهداف
المدنيين، والتزامه بالمبادرة المصرية لإحياء عملية السلام، ما دام هذا
الإلتزام قد
يؤدي إلى رفع الحصار الإسرائيلي عنه، أو وقف التعامل الأميركي معه.
الثاني: تجديد شرعيته عبر الدعوة إلى "تجديد نظامنا
السياسي باستمرار"، وتكريس مبدأ الإنتخابات، والدعوة لإجراء انتخابات
رئاسية
وتشريعية وبلدية، بل واجراء انتخابات في مختلف النقابات والجمعيات
والإتحادات
الأهلية، متجاهلاً أنه هو الذي يعرقل ذلك طوال عدة عقود..!
ولكن هل تكفي الدعوة لإجراء انتخابات رئاسية،
تعرقلها اسرائيل في هذه الحالة، لتجديد شرعية الرئيس..؟
السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ولا شرعية
للفساد.
|