إصلاح ومصلحين ومفسدين
حمد حمد
يحكى أن عشرات اجتمعوا في أحد المجالس، وأنه وبعد طول انتظار، بدأ
الجميع فيهم يشعر بالضجر والملل، وصار البعض فيهم يبحث عن سبيل يكسر
روتينه، ويملي فراغه. واجتهد هذا البعض، وتوزع هذا الكم على مجموعات
صغيرة، وبعد أن انتهت عملية التوزيع، اقترح أحد الأشقياء أن تتبارى هذه
الفرق فيما بينها. ولأنهم من خيار القوم، كما يعتقدون هم ، طالب البعض
فيهم أن يبحثوا عن لعبة جديدة، وإن لزم الأمر استيراد لعبة من بلاد
برة. وبعد طول هرج ومرج، وأخذ وعطاء ، وشد وجذب اتفق الجميع على تقليد
ومحكاة الآخرين، وذلك من خلال لعبة الإصلاح، باعتبار أن هذه اللعبة
صارت لعبة كبار الدول في بلاد الواق واق.
وعليه انطلق أحد المجتمعين لسطح البناية، وقال أنا المصلح لهذا المجلس،
فمن يرى في نفسه مصلحاً مثلي، فليصعد هذا السطح، لنرفع معاً راية
الإصلاح. انشغل الخطب ممن بقي على الأرض. ودار نقاش وعلت أصوات، وصراخ،
وبقي صاحبنا ينادي أنا المصلح، فمن أراد إصلاحاً فليتبعني، إنا هنا
متمترسون . واستمر الوضع على هذا الحال، وطلعت الشمس، وارتفعت درجة
حرارة الجو، ولم يجد المصلح من يسعفه بنقطة مياه، أو من يتبرع ويصعد
عنده، ليتوقف عن ندائه الذي تواصل، حتى سقط مغشياً عليه،حيث لا يعرف أن
مات متأثراً بالعطش والتعب، أم أنه قرر الانتحار بعد أن بقي وحيداً
طوال الوقت. عندما سقط هذا المصلح ، هب الخطب، وصار البعض يصرخ، وينادي
بالانتقام لدمه المهدور، وحمل هذا البعض الاحتلال، والمتنفذين في
الحكومة مسؤولية هذه الجريمة. وانطلق البعض يرثي الشهيد، ويعدد مناقب
الخير، وألصقت به العديد من الرتب العسكرية، والبطولات التي سمعناها
للمرة الأولى. وبعد أن انتهى بيت العزاء، وبدأت الأمور تعود لطبيعتها،
حيث الملل والضجر، عاد أصحاب المصلح المنتحر ، أو المتوفى للبحث عن
سبيل للخروج من الفراغ الذي يخيم على المجلس ، حيث لم تعد حادثة وفاة
المصلح تشكل أي محور للنقاش.
وذات يوم وأعضاء المجلس يمعنون النظر في برامج التلفاز، لفت أنظار
البعض فيهم كلمة إصلاح، فبادر أحد الجهورين، وصاح بصوت كسر الصمت
المخيم على القاعة، وقال عاش الإصلاح. وأردف قائلاً منذ اليوم أن أول
إصلاحي في هذا المجلس. وقد لاقت هذه الكلمة ردود فعل مختلفة، فدار نقاش
بين أعضاء المجلس في أصل الكلمة، حيث راح البعض فيهم وأحضر المنجد،
فيما أصر البعض الآخر على اعتماد لسان العرب للبحث في أصل الكلمة.
واستمر النقاش، واتفق الجميع على مراجعة قاموس سيد الكون ، وراعي البقر
الأول جورج بوش لمعرفة معنى هذه الكلمة. الإصلاحي الأول ، قال لن أشغل
نفسي في البحث في أًل الكلمة، ولن انتظر طويلاً فالوقت يمضي، ونحن نعيش
فوضى تهدد كياننا. وأخذ صاحبنا نفسه، وقال أنا لن أصعد السطح لإعلان
مطالبي، بل سأضرب عن الطعام حتى يوافق مجلسكم الموقر على برنامج إصلاح
. حاول البعض من دهاة المجلس إقناع صحابنا بعدم اللجوء لهذه الخطوة ،
المجنونة حسب وصفهم، إلا أن الإصلاحي الأول أصر على موقفه، ورفض النزول
عن مطالبه ببرنامج إصلاح ، وأضاف إليه كلمة شامل. في اليوم الأول لفت
صاحبنا أنظار البعض، وجرت نحوه الفضائيات العربية ، وبعض الوكالات
الأجنبية، وشعر بقيمة الخطوة التي أقدم عليها. حاول بعض مسؤولي الحكومة
التفاوض مع الإصلاحي، إلا أن صاحبنا الذي ساهمت الفضائيات بتحريضه، أصر
على عدم التفاوض مع الحكومة باعتبار ذلك يهدف النيل من مطالبه. وبعد
عدة أيام لجأت الحكومة لأحد المختصين، فاقتراح عليها بعض الخطوات التي
من شأنها أن تلفت الأنظار بعيداً على الإصلاحي، ويوماً بعد يوم تلاشت
أخباره، وبعد أكثر من أسبوعين وصلت مكالمة لأعضاء المجلس وهم في مجلسهم
يتبادلون أطراف الحديث، وأخبرهم بأن صاحبهم قد فارق الحياة متأثراً
بإضرابه المعلن عن الطعام. وهكذا وجد أعضاء المجلس ، خاصة متخصصي الخطب
النارية، وأصحاب الشعارات البراقة فرصة لتفريغ بعض مما يشعرون به من
ملل ، حيث نظمت القصائد في وصف الإصلاحي الأول. وراح البعض من متطرفي
الشعارات حد المطالبة بيوم الإصلاح الوطني ، على أن يكون هذا ليوم ذكرى
سنوية تحتفل بها الجماهير. ورغم موافقة الجميع على هذه الخطوة، إلا أن
ذلك القبول لم يرق لبعض مثيري الشغب داخل المجلس، فأثار سؤال ، متى
يكون هذا اليوم ، هل يوم إضراب الإصلاح الشهيد، أم يوم استشهاده. مالت
الأغلبية لتبني يوم الوفاة"الاستشهاد" ، إلا أن أحد المعترضين، قال لقد
استشهاد أبو إصلاح" أحد الألقاب التي حظي بها العضو المتوفى" ، يوم
إعلانه الإضراب عن الطعام. وهكذا انشغل المجلس أسابيع في تحديد موعد
اليوم الوطني للإصلاح، ومن ثم تسمية أعضاء اللجنة الوطنية العليا
لإحياء ذكرى الإصلاحي، وبعد ذلك تسمية أعضاء لجان المناطق والأقاليم.
وقد رافقت عملية التسمية هذه العديد من المشاكل، حول أساليب اختيار
اللجان، فمن أعضاء المجلس من اقترح أن تكون اللجان المناطقية حزبية،
تمثل جميع ألوان الطيف السياسي، ومنهم من أصر على أن تكون لجنة حكومية،
فيما حاول البعض أن تكون لجنة من " ان .. جي .. أوز" . وتلبية للموضة
رجحت كفة الإن جي أوز.
انتهت كل هذه المراسم ، وتم استئجار مقرات والتنسيق مع كل فرق الإنشاد،
ومثقفي البلد من أجل خروج الاحتفالات بالمستوى الذي يليق بمشروع
الإصلاح. وبعد ذلك عاد المجلس لعهده السابق، ملل ، ضجر، فراغ ، ضبابية،
رواتب، مخصصات، ترقيات، نثرية، مساعدات، ولكن كل ذلك لم يبث الروح في
المجلس. وكما في السابق ، ساهمت الحرب على الإرهاب، والعولمة في تسريب
مصطلحات أخرى للشارع، حيث أن شعار محاربة، مكافحة الفساد أصبحت مادة
دسمة للإعلام، حيث تسلل أحد الذين استأثر بالكثير من الامتيازات في عهد
كل الحكومات، واستطاع بفعل علاقاته المتينة، والمقيتة مع كل المسئولين
تفريغ كل من يخصه، وتوجه للإعلام من خلال بعض الإعلاميين، وطالب بحملة
لمحاربة الفساد. في البداية استغرب الجميع هذه المبادرة ، وذلك باعتبار
صاحبنا له مساهمة في كل ملفات الفساد التي عرفها ، وسمع عنها الشارع
المحلي. وصار الجميع ينظر حوله ، إذا كان هذا الفاسد من يرفع شعار
محاربة الفساد فلا بد أن لديه الكثير مما يدلي به ، وراح البعض يمني
نفسه بأن هذه البداية، هي بداية حرب داخلية بين المفسدين. ترى هل هذه
حقيقة؟ هل هي بداية الحرب على الفساد؟ وهل اختلف اللصوص على تقسم
السرقة، فانفضح أمرهم؟ أسئلة كثيرة برزت، ومبادرات أكثر عاشتها البلاد
، وكل ذلك أملاً في القضاء على الفساد.
وبعد أن انتهت الضجة الإعلامية توجهت الوفود لصاحبنا رافع راية محاربة
الفساد، يحذوهم الأمل بأن يجدوا ضالتهم، فوجدوا صاحبنا مشغولاً بالمزيد
من الصفقات التجارية، التي ليس لها علاقة بعمله. قال البسطاء ، يبدو أن
صاحبنا يحاول أن يؤمن نفسه قبل أن يغادر المجلس، حيث أن الحرب المعلنة
قد تؤدي به خارج المجلس. فأوجدوا له مبرر لانشغاله بتجارته . وبعد
جولات وزيارات ، توجه وفد من قطاعات كثيرة لصحابنا الجديد ، وطالبوه
بتفعيل مشروعه لمحاربة الفساد. وبدهاء كبير، وبخبث أكبر ، أكد على
ضرورة فعل شيء ما للقضاء على الفساد. وبعد هذا الكلام ، خرج العشرات
يكيلون لرافع راية محاربة الفساد شعارات المدح والثناء. توالت الجلسات،
وبعد نقاش طويل، طلب من كل من يحضر إليه أن يقترح عليه أشكال الفساد
التي يراها، وأن يقترح حلولاً للخروج من الواقع . استغرب البعض هذه
الروح، وقالوا يبدو أن الديمقراطية ستعم البلاد. وتمر الأيام وصاحبنا
يواصل عقوده التجارية، ويحصل في خضم هذه الحالة على المزيد من المشاريع
ليزيد من أرصدته، وممتلكاته في الوطن والخارج، حيث يحلو لكل المسؤولين
العرب الاستثمار في الخارج. وحتى يحافظ على ذاته ومنجزاته، أقر صحابنا
اجتماع دوري يتم خلاله البحث في سبل وأدوات القضاء على الفساد، ومرت
سنين ، ولا زالت المشاريع تتوالى، وكل اجتماع يتم نقاش فكرة، وكل فكرة
تجمل بداخلها فيروس الموت لها ، وللأفكار التي سبقتها. وقد وصلت البلاد
في عهد هذا الرجل حداً لم تصله من قبل، وبقي ينتفخ من كثرة أمواله،
فيما انتشرت الفوضى باسم القضاء على الفساد، وانتشرت البطالة بانتظار
الإصلاح المرتقب، ولا زالت العجلة تدور، ولا زال الشعب يعيش في دوامة
الفقر والجوع والفوضى والبطالة، والفساد لم يتم تعريفه بصورة تسمح لأحد
بمحاربته أو حتى الاقتراب منه.
|