عرفات .. رحمة الله عليه ..
ذهب ليلقى بارئـه ، مخلفــاً وراءه

تركة ثقيلة تنوء عن حملها أجيال فتح الحاضرة : خروج مأساوي للمقاومة من الأردن ، وخروج أكثر مأساوية من لبنان ، وخروج درامي طوعي من تونس .. فكان ما نشهده اليوم من تردٍ في كل شيء ، حتى في المبادئ والشعارات .. وأولها شعـار فتح "ثورة حتى النصر" !!.

محيط : موسى راغب


  

لنتناسى كل هذا مؤقتاً .. ولننظر فيما يجري الآن على الساحة الفلسطينية ، لعله إيذان ببدء مرحلة جديدة يطل فيها الشعب الفلسطيني على بصيص من أمل لم يـذق له طعماً منذ أكثر من نصف قرن ، وإن كان يبدو هو الآخر حلماً من أحلام اليقظة .

محمود عباس .. الرجل الذي وصم عمليات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل بالإرهاب ، وحمّلها تبعة كل ما أصاب الشعب الفلسطيني من مآسي ونكبات ، وتباكى في لقاء العقبة مع بوش وشارون على قتلى إسرائيل في تلك العمليات ، وعلى ما لاقاه اليهود من اضطهاد ومعاناة وإبادة على يد النازية ، دون أن ينطق ببنت شفة حول قوافل الشهداء من الفلسطينيين ، محمود عباس هذا .. عاد اليوم ليكون مرشح فتح الوحيد لخلافة عرفات ، مدعوما بإسرائيل وأمريكا .

ولنا هنا أن نسأله : ماذا في جعبتك من جديد تستطيع به حل المشكلات التي استعصى على عرفات حلها مع الإسرائيليين ، وأنت ما زلت على المبادئ التي رفضها الشعب الفلسطيني ورفضك من قبل بسببها ؟.

أنت تقول أن المفاوضات مع حكومة إسرائيل هو الطريق الوحيد إن لم يكن الأمثل ، للوصول إلى حل سلمي ونهائي للقضية الفلسطينية ، وأن المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي خطأ تاريخي ما كان على الفلسطينيين أن يرتكبوه .

فلنفترض جدلاً صحة هذا القول .. ودعنا نسألك : ما طبيعة هذا الحل الذي تشير إليه ، هل يكفل قيام دولة فلسطينية قابلة للبقاء والاستمرار على أرض الضفة والقطاع ، كما زعم رعاة اتفاق أوسلو في السابق وأنت أبرزهم ، وكمـا يعدكم الآن رئيس أمريكا المتصهين بوش ؟.

في السنوات العشر السابقة التي مضت على توقيع اتفاق أوسلو ، دأب الإسرائيليون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على التهام أراضي الضفة الغربية قضمة قضمه ، حتى أضحى ما يعرضونه منها لا يتجاوز 42% من مساحتها ، وهي أرض مقطعة الأوصال لا يربط بينها رابط جغرافي يسمح بإقامة دولة أو حتى تجمع سكاني متصل عليها .. فهل تعتقد أن هناك ما يدعو الساسة الإسرائيليين لأن يغيروا الآن من نهجهم هذا

نشك في ذلك لسبب بسيط ، وهو أن القيادة الإسرائيلية ترى أن الظروف الموضوعية التي تحيط بالقضية الفلسطينية ، وكذلك المناخ الدولي الذي يميل لصالح إسرائيل حالياً ، يعتبر ملائماً جداً لتنفيذ مخططاتها الغائية في إقامة الدولة العبرية على كامل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر ، إن لم يكن إقامة دولة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل . بل إن هذه الظروف أضحت اليوم في اعتقاد دهاقنة الصهيونية وغلاة المحافظين الجدد وعصابة المسيحيين المتصهينين القابعين في البيت الأبيض ومبنى البنتاجون في واشنطن ، أكثر ملاءمة من أي وقت مضى لإقامة الدولة اليهودية العالمية التي تنادي بها بروتوكولات صهيون.

هذا أولاً ، وثانياً : إن جميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والأعراف الدولية ، تعطي الشعوب المحتلة كل الحق في استخدام كافة الوسائل المتاحة لديها لمقاومة الاحتلال . ثم تأتي أنت لتكرر الطلب من فصائل المقاومة الفلسطينية بوقف نضالها المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه ، في الوقت الذي لا تبدي حكومة شارون أي دليل على نيتها في التخلي عن سياسة الاغتيالات وارتكاب الجرائم بحق عناصر المقاومة والشعب الفلسطيني دون تمييز.

فكأنك بهذا تقول للشعب الفلسطيني : إنك كنت على خطأ حين رحبت بإقصائي عن رئاسة الوزارة في المرة السابقة ، فها أنا قادم ثانية لأوقف المقاومة المسلحة التي لم يستطع عرفات في حياته إيقافها . ونحسب أنك بهذا الفعل ، إنما تلبي شرط إسرائيل للعودة إلى طاولة المفاوضات .

وهنا نقول لك عن يقين : إن عرفات لم يرفض تنفيذ هذا الشرط ، وأنت تعلم جيداً أنه حاول أكثر من مرة تنفيذه لكنه فشل . وكان في تراجعه عن هذا الأمر ذكياً ، لأنه أدرك مبكراً أن هذا الفعل إن تم ، إنما يمثل درباً من الحماقة والجنون . فهل ستقدم أنت على استخدام القوة لتنفيذ هذا الشرط ، حتى تقبل إسرائيل وأمريكا بك شريكاً في المفاوضات التي يروّجون لها ؟.

وثالثا ، في يوم من الأيام كان الشعب الفلسطيني كله وراء قادة فتح ، أما اليوم فأنت تعلم أكثر من أي سياسي بما آلت إليه شعبية قيادات حركة فتح الآن من تدن في نظر الشارع الفلسطيني . فها أنتم قادة فتح التاريخيين والمحدثين ، ولا أقول البسطاء من عناصر الحركة الذين يطلبون الشهادة من اجل تحرير الأرض ، تنقسمون على أنفسكم ما بين حرس قديم يريد أن يرث السلطة وما لها وليس ما عليها ، وبين قيادات شابة ، منها ما هو واضح الانتماء والوطنية والمبدأ والهوية ، ومنها ما هو جامح يحيط به الغموض ويجنح للهوى من الرأس حتى أخمص القدمين .. برغم محاولاتكم إنكار ذلك .

ثم ، ماذا أنتم فاعلون ، والحال هذه ، مع العديد من كوادر فتح التي تنادي بالإصلاح والقضاء على الفساد ، وبخاصة مع كتائب شهداء الأقصى التي يبدو أنها قبلت بترشيحكم على مضض حفاظاً على وحدة فتح ، كما رفضت وترفض توجهاتكم نحو إيقاف المقاومة المسلحة ضد الاحتلال بالقوة ؟ .. هل ستقابلونها بأسلوب الحوار ، أم بالعصا الغليظة التي تهددون بها فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى إن هي خرجت عن طوعكم ؟.

وماذا أنتم فاعلون أمام موقف مروان البرغوثي الذي أعلن ترشيحه في انتخابات الرئاسة التي تعدون لها كمرشح مستقل ؟ .. هل سيواصل قادة الحركة تهديداتهم باتخاذ إجراءات عقابية ضد مروان إذا لم يسحب ترشيحه ؟ .. وما مضمون تلك التهديدات ؟ .. هل ستقتصر على فصله من الحركة وهو الذي انسحب منها طوع إرادته فور تسمية نفسه كمرشح مستقل .. أم ماذا ؟!!!!.

أنتم تعلمون أن حركتي حماس والجهاد الإسلامي أعلنتا أخيراً أنهما لن تشاركا في الانتخابات ، وعللتا ذلك بأنها مجرد انتخابات تستهدف فقط تعيين رئيس للسلطة الفلسطينية الذي أتى به اتفاق أوسلو الموءود ، والذي يمثل المرجعية الوحيدة لشرعية قيام السلطة الفلسطينية ، كما عللتا ذلك بأن قادة فتح والسلطة رفضوا مطلب حماس بأن تشمل تلك الانتخابات اختيار أعضاء المجالس البلدية وممثلين عن مختلف فئات الشعب الفلسطيني بعيداً عن مرجعية اتفاق أوسلو ، ورفضوا أيضاَ إنشاء قيادة موحدة تضم ممثلين عن جميع فصائل المقاومة والأطياف السياسية الفلسطينية .

وتعلمون أيضاً أن حماس وجميع الفصائل الأخرى بما فيها طلائع شهداء الأقصى الذراع العسكري لحركة فتح ، حذرت مراراً من مغبة الإقدام على وقف المقاومة المسلحة للشعب الفلسطيني وتجريد فصائلها من سلاحها ، بدعوى القضاء على الفوضى الأمنية في الشارع الفلسطيني . فأنتم تعلمون جيداً أن هذه الفوضى التي تتحدثون عنها ، إنما هي من فعل الصراع العبثي الدائر بين قيادات فتح السياسية والأمنية على السلطة ، ومن فعل الفساد الذي استشرى بصورة خطيرة وما زال في مؤسسات السلطة وبين قادتها النافذين .

هنا نقول لكم : حذار من استخدام القوة في محاولاتكم ووعودكم لإسرائيل وأمريكا بإيقاف المقاومة المسلحة ، ليس خوفاً على شخصكم وإنما على الدم الفلسطيني الذي سيسال بغزارة إذا ما أقدمتم على هذا الفعل المشين . فنحسب أنكم تعلمون جيداً أن معيار القبول الإسرائيلي والأمريكي لأي رئيس جديد للسلطة ، يقاس بمدى رغبة الرئيس الجديد وقدرته في القضاء على المقاومة المسلحة للشعب الفلسطيني . وتعلمون أيضاً أن عرفات رحمة الله عليه ، كان في منتهى الذكاء حين أدرك أن الإقدام على هذا الفعل سوف ينقلب على صاحبه إن آجلاً أو عاجلاً .. فتوقف عن محاولاته . فهل ما زلتم تصرون على وقف المقاومة المسلحة بالقوة ، لتكونوا بذلك الرئيس الموعود للسلطة الفلسطينيـة ، الذي يحظى على القبول والرضا من الإسرائيليين والأمريكان ؟.

وأخيراً ، يبدو من تصريحاتكم أنكم توافقون على انسحاب إسرائيل من قطاع غزه ، بدعوى أن هذا الانسحاب سيكون كما تعدكم أمريكا وتعتقدون به جزءاً من خريطة الطريق التي سبق أن وصفها شارون نفسه بأنها هراء ولا طائل من ورائها . فكيف تبررون هذا القبول وأنتم تعلمون جيداً أن الانسحاب من غزه سوف يجرى إذا ما تم ، على حساب بقاء المستوطنات اليهودية في الضفة وتنفيذ مخططات شارون للاستيلاء على أكبر قدر من أراضيها ؟. هل تعتقدون أنكم بوقف المقاومة المسلحة ضد إسرائيل ، قادرون على إقناع حكومة شارون أو غير شارون بتغيير سياساتهم الاستيطانية في الضفة ؟. يقيناً أن إسرائيل لن تغير موقفها ، ويقيناً أنكم تدركون هذا .

وعودة لما بدأنا فنسألكم : باعتباركم المرشح الوحيد لحركة فتح .. لماذا لا توافقون على إجراء انتخابات شاملة تضم مجالس البلديات وتمثيلاً حقيقياً لمختلف فئات الشعب الفلسطيني ، إلى جانب رئاسة السلطة ؟ ، ولماذا لا توافقون على إنشاء قيادة فلسطينية موحدة تجمع كافة الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية ؟ .. هل أنتم الوحيدون على ساحة النضال الفلسطيني حتى تجيّروا لأنفسكم الحق في أن تقرروا ما ينبغي أن تشمله تلك الانتخابات وما لا تشمله ؟ ، وهل تخشون الفشل فيها ؟ . وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا تصرون على ذات المواقف التي التزمتم بها في التعامل مع الثوابت الفلسطينية ، ولا نريد أن نذكر منها سوى موقفكم المعارض لاستمرار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال ؟!!!.

يا سيدي : نحن لا نرفضك مرشحاً وحيداً لحركة فتح ، فهذا شأنك وقرارك الذي نحترمه ، لكنا نرفض أن تكون فتح وقادتها ومرشحوها الوريث لكفاح الشعب الفلسطيني ، ونرفض إصرارك على إسقاط الورقـة الوحيدة التي ظلت بيد شعبنا وهي ورقة الكفاح المسلح التي كانت فتح أول من رفع لواءها عام 1965، بعد أن اسقط قادتها التاريخيين ، وأنت واحد منهم ، كل الأوراق الرابحة حين صادقوا على اتفاق أوسلو الموءود . فكل الفلسطينيون وفصائلهم معنيون مثل فتح بقضية هذا الشعب ومستقبله ، ولا يجوز أن يستغل هؤلاء القادة وجودهم على رأس السلطة التي أتى بها ذلك الاتفاق المشئوم ، وينفردوا باتخاذ القرارات الخاصة بالشأن الفلسطيني .

ثم ، ألا ترون أنكم تتصرفون وكأنكم قد فزتم مقدما في تلك الانتخابات قبل أن تُجرى ؟ ، فتجتمعون بهذا الفريق وذاك ، وتلقون الأوامر لرجال الأمن ، وتأمرون ومناصروكم الإعلام الفلسطيني بالتوقف عن بث رسائل التحريض ضد إسرائيل .. ألا ترون في هذا التصرف تجاوزاً لمنطق الأشياء ، واتساقاً مع النتائج التي يود الإسرائيليون والأمريكيون أن تتمخض عنها تلك الانتخابات ، وأولها أن تأتي بقيادة فلسطينية طيعة تأتمر بأمر إسرائيل وتقبل بشروطها وتنصاع لرغباتها ، وتشعل الاقتتال بين الفلسطينيين ، وتقضي على المقاومة المسلحة للشعب الفلسطيني ، وتبرر أمام العالم مقولتها بأنه ليس ثمة شريك فلسطيني يمكن التحدث إليه والاعتماد عليه والتفاوض معه ، ومن ثم تعطي الشرعية لمخططاتها الاستيطانية في الاستيلاء على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية ؟.

ألا ترى أن قيامكم بمثل هذا الدور ، وما تنادون به من ضرورة إيقاف المقاومة المسلحة للشعب الفلسطيني ، إنما تصبحون بمثابة "علاّوي" جديد في فلسطين ، يأمر كوادر سلطته بالقضاء على فصائل المقاومة استجابة لأوامر العدو .. فيسيل بذلك الدم الفلسطيني أنهاراً ، ويتحقق لشارون وجيشه وحلفائه الأمريكيين ، ما لم يستطيعوا تحقيقه في أربع سنوات مضت ، هي عمر انتفاضة الأقصى.

سيدي .. لا نريدك أن تنسى أن الألقاب التي تُصبغ على قادة السلطة وأنت أبرزهم .. من قبيل "سعادة الوزير" و "معالي رئيس الوزراء" و "فخامة رئيس السلطة" و "الرئيس الفلسطيني" وغيرها الكثير .. إنما يعتبرها الإسرائيليون وغيرهم من أعداء شعبنا مجرد مخدر يستعينون به للقضاء على إرادة المقاومة التي قضّت مضاجعهم وأرهقت اقتصادهم . فلا تُخدع أو تصدق أبداً أنهم يستطيعون بهذه الوسيلة او غيرها الانتصار على إرادة الشعب الفلسطيني في رفض الاحتلال ومقاومته حتى رحيله .

إن تاريخ الشعوب ونضالها لا يقاس بمرحلة من العمر تنهار فيها القيم وتتدنى الهمم ويشيع الفساد ، وإنما يقاس بمدى قدرتها على البقاء والاستمرار ، ومدى تمسكها بالقيم والمبادئ التي تستقي منها مقومات وجودها . ولا نخالك تجهل أن الإسلام والثقافة الإسلامية هي المعين الذي منهل منه أمتنا العربية والإسلامية مبادئها ومقومات وجودها , وهو معين لا ينضب أبداً .

فإذا كانت الأجيال الحاضرة في هذه الأمة قد تهاوت إرادتها وخارت قواها وفسدت قياداتها ، فلن يبقى هذا الحال على حالة ، والتاريخ شاهد على ذلك . فكم من حضارات سادت ثم بادت ، وكم من ثقافات بزغ فجرها وعلا شأنها قامت على أنقاض ثقافات سابقة عليها .

فإذا كان لديك ثمة شك فيما نقول ، فاقرأ - وأنت كما نعلم قارئ جيد - لابن خلدون ، وآرنولد توينبي ، وسوروكين ، وغيرهم من أعلام فلاسفة التاريخ وعلماء الاجتماع ، ما كتبوه عن تاريخ الحضارات وعن نشأتها وتطورها ثم اضمحلالها وفنائها ، لعلكم تجدون فيه ما يعينكم على فهم تبعات الأسفار التي يبدو أنكم تتلهفون على حملها إرضاء لمن لا يستحقها !!!.

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع