الانفلات الأمني.. ومسؤوليّة "أبو مازن" !

بقلم : صالح النعامي.

   لا يختلف اثنان على أن ما عجزت عنه دولة الاحتلال بجيشها وقوّتها العسكرية في تحقيقه في المواجهة المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني، قد تطوّع بعض الفلسطينيين لتحقيقه لها من خلال مساهمتهم في مفاقمة حالة الانفلات الأمني وفوضى السلاح. لقد أصبح الفلتان الأمني أكبر تحدٍ يواجه المجتمع الفلسطيني، وأقوى

العوامل التي تمسّ قدرة هذا المجتمع على مواصلة تحمل أعباء المقاومة والتحرير. فإن كان أهم متطلبات الانتصار في المواجهة مع دولة الاحتلال هو وجود مجتمع موحد وسليم ومعافى، فإن الانفلات الأمني وفوضى السلاح المستشرية حالياً في الضفة الغربية وقطاع غزة لا يساهم إلا في ضرب نسيج المجتمع الفلسطيني، ويفاقم من أمراضه، ويلهي الفلسطينيين عن مواجهة هذا الاحتلال.

لقد أصبح الشغل الشاغل لمعظم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، هو ضمان سلامتهم وسلامة عوائلهم من مظاهر الفلتان الأمني. وللأسف الشديد فإن الفلسطينيين باتوا يخشون عواقب الفلتان الأمني أكثر مما يخشون من المواجهة مع جيش الاحتلال.

 

  إن أهم الأسباب التي تقف وراء مظاهر الفلتان الأمني هو ضعف مؤسسة الرئاسة الفلسطينية الواضح، وعجزها عن فرض سيادة القانون وهيبة السلطة، وتلكّؤها في ممارسة الصلاحيات التي منحها إياها القانون لوضع حد لهذه المظاهر الهدّامة. وبعد أكثر من خمسة أشهر على انتخابه، فإن الرئيس "أبو مازن" يعجز عن تفعيل الخطط الأمنية التي تمت صياغتها لوضع حد لهذا الواقع المزري. ويبدو تقصير "أبو مازن" كارثياً إذا علمنا أن المسؤولين عن مظاهر الفلتان الأمني هم منتسبو الأجهزة الأمنية الذين -من المفترض- أن يكونوا خاضعين لإمرته بوصفه رأس هرم الحكم في السلطة، كما أن المجموعات المسلحة المسؤولة عن بعض مظاهر الفلتان الأمني مرتبطة بمراكز قوى معروفة داخل السلطة، وتحتمي بها.
إن الذي يثير الاستهجان هو أن "أبو مازن" يلجأ أحياناً للتحاور مع المسؤولين عن حالة الفلتان الأمني، والاستجابة لمطالبهم، كما حدث عندما قام بعض منتسبي الأجهزة الأمنية بإطلاق النار على مقره في رام الله، وعربدوا لساعات طويلة في شوارع المدينة. لقد عكس سلوك "أبو مازن" عجزاً قيادياً مخلاً، وقد فضح هذا العجز وزير داخليته اللواء نصر يوسف الذي كشف خلال شهادة أمام المجلس التشريعي أن قادة الأجهزة الأمنية يرفضون تعليماته الهادفة لتفعيل الخطط الأمنية التي صيغت لوضع حد لحالة الفلتان الأمني. ليس هذا فحسب، بل إن نصر يوسف تحدث عن علاقات مشبوهة لبعض قيادات الأجهزة الأمنية مع جهات خارجية، وإن هؤلاء القادة لا يقبلون بوزارة الداخلية كمرجعية لهم. لقد صمت أبو مازن، ولم يحرك ساكناً، ولم يتخذ أي إجراء ضد قادة الأجهزة الأمنية الذين لا يعنيهم تخلّص الشعب الفلسطيني من هذا الواقع المزري. لكن المضحك المبكي كان -بلا شك- موقف رئيس الوزارء الفلسطيني أحمد قريع من حالة الفلتان الأمني. فقريع هدّد أنه في حال استمرت مظاهر الفلتان الأمني، فإنه سيقوم بتعليق أعمال الحكومة!! فمن سيوقف هذا الفلتان، أليست هذه مسؤولية السلطة وحكومة قريع تحديداً. كان يمكن فهم ردّة فعل قريع لو قدم استقالة حكومته بسبب عجزها عن وضع حدّ لهذا الواقع، بدلاً من التهديد بتعليق أعمال الحكومة، والبقاء في الحكم.


لقد وفّر النظام السياسي الفلسطيني الذي تبلور بعد " أوسلو" الأرضية الخصبة لتنامي مظاهر الفلتان الأمني، وتجذير تجاوز القانون وعدم احترامه. فقد جعل هذا النظام من فرض احترام التزامات السلطة السياسية كما وردت في اتفاقية "أوسلو" على المجتمع الفلسطيني وقواه السياسية، وظيفته الأساسية، حتى لو أدّى ذلك إلى المس بالوظائف الأخرى التي تسعى الأنظمة السياسية - في البيئات السليمة- عادة إلى تحقيقها. فرض احترام التزامات السلطة كان يقتضي بالأساس ضرب حركات المقاومة الفلسطينية التي كان يُنظر إليها على أساس أنها تتحدى هذه الالتزامات عبر مواصلة تنفيذ عمليات المقاومة. كان بإمكان السلطة أن تواجه حركات المقاومة عبر الاستناد إلى القانون الفلسطيني، لكنها ضربت بهذا القانون عُرض الحائط، فكانت عمليات الاعتقال والتعذيب، وإغلاق المؤسسات الحزبية والخاصة. وأسست السلطة لتجاوز جهاز القضاء الفلسطيني عندما لم تحترم مؤسسة الرئاسة والحكومة والأجهزة الأمنية قرارات محكمة العدل العليا التي تُعدّ أكبر مرجعية قضائية في السلطة الفلسطينية، التي أمرت السلطة بالإفراج عن قادة ونشطاء المقاومة؛ لأن اعتقالهم كان تعسُّفياً ومخالفاً للقانون. لقد رفضت السلطة تطبيق قرار المحكمة العليا القاضي بالإفراج عن أحمد سعادات أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خوفاً من إغضاب إسرائيل، واحتراماً لالتزاماتها تجاه الإدارة الأمريكية. وعلى نفس الخلفية تجاهلت السلطة عشرات القرارات التي أصدرتها المحكمة. وفي المقابل كانت السلطة -ولا تزال- ترفض تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم الفلسطينية بحق العملاء الذين أُدينوا بالتخابر مع إسرائيل وتقديم معلومات أدّت إلى قتل وجرح المقاومين الفلسطينيين، كترجمة لاحترام التزامات السلطة لإسرائيل، مع أن السلطة نفّذت أحكام الإعدام في بعض الذين أُدينوا بجرائم قتل على خلفيات جنائية.

إن هذه الانتقائية في تطبيق قرارات المحاكم يفاقم مظاهر الفلتان الأمني؛ لأن عدم تطبيق السلطة لأحكام القضاء الصادرة بحق العملاء يدفع حركات المقاومة للقصاص منهم، على اعتبار أن هذه الحركات وعناصرها أكثر المتضررين من عمل هؤلاء العملاء.

وإن كان الفلتان الأمني هو وليد انعدام احترام سيادة القانون، فإنه بدون إعادة الاعتبار للقضاء الفلسطيني، واحترام قراراته بوصفها المرجعيّة النهائيّة للسلطة، وليس الاتفاقيات الموقعة مع هذا الطرف أو ذاك، فإن مظاهر الفلتان الأمني ستتواصل وتتفاقم في حال لم تغير السلطة من طريقة تعاملها مع القضاء ومؤسساته، ولأن النظام السياسي الفلسطيني أولى ضمانَ فرضِ احترام التزامات السلطة السياسية المكانة الأهم، فقد رفع من مكانة أولئك الذين يتولّوْن فرض احترام هذه الالتزامات، ألا وهم قادة الأجهزة الأمنية ومنتسبوها. فأصبح من المسلم به أن يتجاوز هؤلاء القانون؛ فيتورّطون في عمليات العربدة و الفساد والإفساد، ويفرضون الأتاوات على الناس. ويمتلئ أرشيف المجلس التشريعي بالتقارير التي توثق تجاوزات قادة الأمن ومسؤولي السلطة، دون أن يتم اتخاذ إجراء حقيقي لوقف هذه التجاوزات. وهذا هو الذي يفسر مسؤولية منتسبي الأجهزة الأمنية حالياً عن معظم مظاهر الفلتان الأمني، فالنظام السياسي منح هؤلاء الشعور بأنهم فوق القانون. وبسبب غياب الأجندة الوطنية لدى هؤلاء فهم لا يبدون استعداداً للتعاون في تنفيذ الخطط الأمنية الهادفة إلى الخلاص من مظاهر الفلتان الأمني كما فضح ذلك وزير الداخلية؛ لأنهم يرون أن هذه البيئة مناسبة لتحقيق مصالحهم الخاصة.


إن الحقيقة المرّة التي بات الفلسطينيون يواجهونها كل لحظة هي أن الرهانات على زعامة "أبو مازن" لم تكن في محلها. لقد راهن الكثيرون على إمكانية أن ينجح أبو مازن في تحقيق الشعارات التي ردّدها خلال حملة الانتخابات الرئاسية، وأهمها ضمان سيادة القانون ومحاربة الفوضى. لم يفشل أبو مازن فقط في تحقيق هذا الشعارات، بل إن الأوضاع تفاقمت في عهده بشكل لم يكن لأحد أن يتصوره.


بإمكان "أبو مازن" أن يستعيد زمام الأمور، وبإمكانه أن يجعل التاريخ يذكره كمن خلّص النظام السياسي الفلسطيني من السّمات التي حرصت دولة الاحتلال على وصمه بها.

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع