إلغاء الأجهزة الأمنية الفلسطينية
مصلحة وطنية
بقلم: د. عبد الستار قاسم *
يظن المتتبع للقضايا الداخلية الخاصة للشعب الفلسطيني بالضفة الغربية
وغزة أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية يراد منها خدمة الشعب الفلسطيني،
ومن المهم إعادة ترتيبها وتنظيمها لتقدم خدماتها بشكل أفضل. هذا الظن
عبارة عن وهم ولا يستند على أساس. ولهذا أقص المسألة على القارئ بهذا
المقال:
حسب الاتفاقيات مع إسرائيل، يحق للسلطة الفلسطينية إقامة جهاز شرطة من
أجل حفظ الأمن الداخلي للشعب الفلسطيني وملاحقة الإرهابيين (المقاومين
الفلسطينيين). لم يرد أي نص رسمي معلن حول إنشاء أي جهاز أمني آخر. لكن
سرعان ما تكاثرت الأجهزة الأمنية الفلسطينية فأصبح في فلسطين المخابرات
والاستخبارات والأمن الوقائي والبحرية والقوة 17، الخ. أصبح هناك عدد
وفير من الأجهزة الأمنية التي يصعب على المتتبع الإحاطة بها.
الذي حصل هو أن إسرائيل والولايات المتحدة وافقت على إقامة هذه الأجهزة
للأسباب التالية:
أولا: يخدم تعدد الأجهزة مسألة استيعاب أعداد كبيرة من شباب فلسطين
الذين يتقاضون رواتب تمكنهم من الوفاء بالتزاماتهم المعيشية. فبدل أن
يبقى هؤلاء الشباب في الشارع لا يجدون عملا، تضمهم الأجهزة فلا يفكرون
بالانضمام لفصائل المقاومة أو بالقيام بأي أعمال أخرى قد تحرج السلطة
الفلسطينية وتؤثر سلبا على الوفاء بالمتطلبات الأمنية الإسرائيلية.
ثانيا: تقوم هذه الأجهزة بتوفير المعلومات الكثيرة الهامة وغير الهامة
حول نشاطات أفراد وجماعات الشعب الفلسطيني. فكثرة أعداد المنتسبين لهذه
الأجهزة تجعل من الممكن وجود مخبرين وعيون في كل زاوية وركن من الضفة
الغربية والقطاع.
ثالثا: يسهّل التعدد على عرفات عملية السيطرة على هذه الأجهزة وردعها
بعضها ببعض. وبهذا لم يعين عرفات رؤساء أجهزة متعاونين فيما بينهم
وإنما عين قادة متنافسين ومتصارعين يحاول كل منهم إثبات ولائه لرئيس
السلطة. إنها سياسة فرق تسد.
رابعا: تبعث هذه الأجهزة الريبة والشك في نفوس الفلسطينيين فتتهاوى
الثقة الداخلية ويصبح من غير السهل أن يثق الأخ بأخيه والجار بجاره،
وهكذا. يشعر كل واحد أنه مراقب من الآخرين والأفضل له أن يبقي سره في
صدره ولا يبوح به للآخرين.
هذا فضلا عن أن أمريكا وإسرائيل لهما تجربة قوية مع عرفات في لبنان
والأردن وبقدرته الفائقة على استعمال أساليب الفرقة القائمة على
استخدام المال والنفوذ من أجل تخريب الشعب الفلسطيني وإضعافه وإلحاق
الهزائم به. لقد قاد الشعب الفلسطيني من هزيمة إلى أخرى، ومن مأساة إلى
مأساة، ومن تهجير إلى آخر. لقد كان مبدعا وتفوق على العديد من نظرائه
العرب.
عاثت هذه الأجهزة الأمنية في الأرض الفساد وقدمت لإسرائيل معلومات
وفيرة عن مختلف النشاطات الفردية والجماعية للشعب الفلسطيني. بثت
العيون وتابعت الأشخاص والفصائل والأحزاب والاجتماعات والندوات
والمحاضرات، الخ. ووجدت إسرائيل أنها تحصل على معلومات ممتازة ومفيدة
لم تكن قادرة هي بإمكاناتها الضخمة أن توفرها لنفسها. فالجاسوس الآن
ليس مجرد شخص جندته المخابرات الصهيونية سرا ويعمل بتحفظ وبالخفاء،
وإنما فلسطيني واضح يعمل برخصة وطنية. أخذ هذا الجاسوس يتصرف بوقاحة
ويقول علنا أن المصلحة الوطنية الفلسطينية تقتضي منع الإرهاب والقضاء
على حماس والجهاد، وغير ذلك من العبارات التي كانت في القديم تكلف
قائلها الشيء الكثير. بمعنى أن الأجهزة الأمنية عملت وكيلا للاحتلال أو
نائبا عنه في شؤونه الأمنية.
لكن أمريكا وإسرائيل لم تعودا راضيتين عن ترتيب وتنظيم هذه الأجهزة
لسببين: الأول أنها أجهزة لم تستطع القيام بواجبها الأمني خير قيام
واستطاعت فصائل المقاومة بخاصة الحركة الإسلامية تنفيذ العديد من
العمليات العسكرية الناجحة ضد إسرائيل خاصة في الأرض المحتلة/48. أي أن
تعدد الأجهزة أخل بالكفاءة التي يجب أن تتميز بها. عدد لا بأس به من
أفراد هذه الأجهزة أفاق من غفوته وأخذ يتعاون مع فصائل المقاومة، وقد
قام عدد منهم بعمليات ضد إسرائيل. ظن شباب كثر في بداية تطبيق
الاتفاقيات مع إسرائيل أنهم يخدمون القضية الفلسطينية، لكن الأيام أكدت
لهم أنهم يعملون مخبرين وجواسيس لصالح إسرائيل. أما السبب الثاني فهو
أن الأجهزة مارست فسادا واسعا دفع فلسطينيين نحو معارضة الاتفاقيات مع
إسرائيل. المعنى أن سوء صنيع هذه الأجهزة على الساحة الداخلية
الفلسطينية قلل من شعبية الاتفاقيات وأدى إلى ارتفاع شعبية المعارضة
وعلى رأسها الحركة الإسلامية. هذا ما لا تريده أمريكا وإسرائيل.
ولهذا أصرت الدولتان على إعادة هيكلة هذه الأجهزة الأمنية وتقليص
عددها. والمطروح أيضا هو رفع رواتب من يعملون بها بحيث يكون الولاء
لصاحب المصلحة أكثر حدة من الولاء لفلسطين. إنه من المتوقع تعديل
الرواتب بحيث يكون أفراد هذه الأجهزة محط حسد من قبل الفقراء
والمساكين.
أين مصلحة الشعب الفلسطيني في ذلك؟ لا يوجد للشعب الفلسطيني مصلحة،
وحسب المثل "إن غربت ألطمي، وإن شرقت ألطمي." الشعب الفلسطيني في
النهاية هو الضحية.
الشعب الفلسطيني ليس بحاجة لهذه الأجهزة، وليس بحاجة إلى جيوش من
الجواسيس والمخبرين. يكفيه الجواسيس المزروعون سرا من قبل إسرائيل.
الشعب بحاجة فقط لجهز شرطة واحد يحافظ على الأمن الداخلي الفلسطيني.
فأي إصلاح يهدف إلى خدمة الشعب الفلسطيني يجب أن يطال جهاز الشرطة لأنه
جهاز حيوي في ترتيب الأمن المدني. أما الأجهزة الأخرى فيجب إلغاؤها
وإحالة القائمين عليها السابقين واللاحقين إلى التحقيق. لقد ألحقت هذه
الأجهزة بما فيها جهاز الشرطة الشديد الفساد الأذى بالشعب الفلسطيني،
ومن المطلوب أن يتوقف النزيف.
*
الكاتب استاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية- نابلس، ومرشح
الرئاسة الفلسطينية
|