ثقافة فلسطين الجديدة ضد "التحريض": فرمان لإحراق الذاكرة!

بقلم: ناصر السهلي*

* قبل أن يضحكوا علينا!

" اضحكوا!
فالضحك يطلق اللسان
ويشفي من خرس.
يا أجيال الصمت!
آن لك أن تضحكي.
تكلمي!
فاذا لم تتكلمي، اضحكي!
اضحكوا، اضحكوا
اذا حبسوا أنينكم، انفجروا ضحكا
انفجروا ضحكا."  
                                               
(اميل حبيبي، لكع بن لكع ص59)

***   ***

فشر البلية ما يُضحك..."فهل هناك بلية أشر من هذه البلية"؟

ليس الأمرلا بهذه السهولة ولابتلك الصعوبة.. قبل الفرمان أرادوا لنا أن نحفظ بصما، وغصبا عن لحية التاريخ، بأن حدود فلسطين هي ما تجود به فصاحة وقدرات السياسي، الاخرق، الخارقة... فمن الشمال والجنوب والغرب والشرق.. ومن الأعلى أيضا... إسرائيل... ومعذرة لأهل الشرق فقد تجاوزهم الزمن، وهم يتفرجون، حتى كركوك وزاخو..

قبل الفرمان أيضا, بسنوات ليست قليلة,أرادوا للثورة أن تتحول الى ثروة... فانتعشت غزة بحيتان آتية بالبحر الى شاطئ كان يذخر ببحارة تغني للموج الهادر وللشعب العنيد... وانتعشت أريحا بنصيب يُصيب ولا يُصيب... في سجنها يرقد ثائرون رفضوا التدجين... وللحكاية ثمة تتمة مخزية... لو استمرت لصارت مثل نشر الغسيل الوسخ على أسطح الجيران... ولأن جيراننا قد ثقبوا ذاكرة بعضنا فلا مفر من أن نقرأ فرمانا يلحق بفرمان، كله باسم المصلحة الوطنية العليا... للوطن والشعب...

من يُصدر "الفرمان"؟

ضع يدك على رأسك... إنه السيد رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة "التحرير"... هل تستغرب من أنني جعلت من التحرير بين مزدوجين؟

لن أُكرر عليك الحكاية... لكنها أكيد حالة من تحرير عقلي وعقلك من شوائب الماضي...

هل سألتني عن أي ماض أتحدث؟

هذه مصيبة كبرى من مصائب قدرك وقدري... لقد ابتلينا بنمط من "الثوار" الذين أضحت لديهم الثروة، وما تجره من عز وجاه وامتيازات، حالة من التمنطق بالعقلانية ما يستدعي أن نقلع جميعنا عن قراءة الوطن إلا من ثقب هذه الواقعية المتنورة والتي لا ترى حرجا من أن تقول لك ولي "كفى ثرثرة... أنتم لا تعرفون من السياسة لا ألفها ولا باءها"...

إذن المسألة بسيطة جدا... هل يصعب على من وافق على شرطة فلسطينية ولو بالمايوهات أن يوافق على إعتبار أية ثرثرة عن "الحرية" و"المقاومة" تحريضا  وعن حدود فلسطين التاريخية "خروجا على المصلحة العليا"؟

* فرمان حرق الذاكرة!

أستغرب حقا أن يصدر فرمان منع التحريض عن رئيس اللجنة التنفيذية... ربما َضمن الرجل، رغم زحمة ديمقراطية الترشيحات الى الرئاسة، أنه سيتوج ملكا على "امبراطورية" يغلب عليها طابع الولاء المطلق لمن يقفز عن كل شروط اللعب الجماعي والنظيف... وإلا فلماذا لم يَصدر الفرمان عن السيد رئيس الوزراء بعد أن يُمرر على المؤسسة التشريعية؟

ربما أيضا، بعيدا عن أنه في سباق مع الزمن، أراد الرجل أن يكون قراره شاملا.. بحيث لا تشمل فقط "إمبراطوريته" الموعود بها... بل لتمتد الى حيث الحرج العربي الذي سيستخدم الفرمان لاشاعة جو من الطاعة والصمت حيثما وُجد فلسطيني مُحرض... باعتبار

المنظمة مسؤولة عن كل الحالة الفلسطينية...

هذا يعني فيما يعنيه أن "تحرر" ذاكرتك من "جمود وتطرف" لا طائل منهما..  ولهذا فأنت مدعو إلى القيام بجملة من التصرفات والاقوال التي تثبت  بأنك لست تحريضيا...

لا تعتقد بأن القضية بسيطة فهي تحتاج الى "خارطة طرق" لتدلك  على الكيفية التي من خلالها ستثبت التزامك بما هو مطلوب منك... فلو رأى طفلك أو طفلتك دبابة تقصف بيت الجيران فقل لهما: هذه نملة تتغوط في المكان الخطأ ولم تقصد أن تدمر بيت الجيران... وإذا ما شاهدت طائرة أباتشي تقصف وتدمر في غزة، وسألك صحفي عن رأيك قل له: هذه مجرد فراشات ... الله يسامحها... أما إن سألوك عن الاسرى فما عليك إلا أن تكون متحضرا بإجابتك وتقول:

في الحقيقة هؤلاء الاسرى يستحقون كل هذه المؤبدات لأنهم مشاغبون وخربوا بيوتنا... وهم على كل يعيشون في سجون كأنهم في أوتيلات 5 نجوم ولا أحد يعذبهم...

المصيبة لو أن إبنك أراد أن يستمع الى اغنية عن الاقصى... لكن بسيطة... قل له: يابا...هذه أورشليم...لا تورشني، دورلك على أغنية لنانسي أحسن...  

أما عن وسائل إعلامنا فلا تقلق.. فربما يصدر قريبا فرمانا يعوض عن النقص.. بحيث يُختار لنا بث "البرتقالة" 24 ساعة في اليوم... وسيطلب من الجمهور أن لا يتصل كثيرا ليتحدث عن المعاناة التي يعيشها ولا عن مناشداته للامين العام للامم المتحدة ولا الزعامات العربية الذين يتفرجون كالعادة على مشهد الذبح وكأنه يجري في المريخ...

في المدرسة يجب أن يتعلم ابنك أن يكون مسالما جدا.. فيرفض الدروس التي تخبره عن تاريخ قضيته... وعليه أن لا يقترب من الايات التي يزعل منها "أبناء العم"، وعليك أن تقوم بجهدك الكبير لتقنعه بأن الكوابيس التي تأتيه في الليل  والتبول اللاإرادي لا دخل للجندي "الاسرائيلي" بهما... فهذا متواجد في أراضينا لحمايتنا ليس إلا.. وعليك أن تعلمه أن يحمل معه وردة في الذهاب والاياب ليعطيها لذلك الجندي الذي لم يقصد قتل زميله في الصف ولا قصف مدرسته ولا إذلاله وإذلال شعبه عند الحواجز...

أتدري ماذا؟

حتى تكون قدوة حسنة لأبنائك في زمن الفرمان اللاتحريضي عليك أن تتنكرلكل بيت شعر قاله أي شاعر فلسطيني.. وُتنكر بأن سميح القاسم فلسطيني... كذلك أبو سلمى وفدوى طوقان وجبرا ابراهيم جبرا وكمال ناصر وتوفيق زياد وراشد حسين وفوزي الاسمر... وعليك أن تحرق ما تملكه لغسان كنفاني ورشاد ابو شاور.. و.. و...

وإذا كان أبنائك يحفظون كلمات درويش التي قال فيها:

"فإن السلاسل

تعلمني أن أقاتل

أقاتل أقاتل"

فقل لهم إن الشاعر قصد أن السلاسل تعلمنا أن "نسالم.. نسالم"!

أما لو كان الامر يتعلق بكلمات لسميح القاسم، الذي نكرت فلسطينيته، والتي قال فيها:

"يا عدو الشمس.. لكن.. لن أساوم

والى آخر نبض في عروقي سأقاوم"

فعليك أن تصحح له كأن تقول له إن ما قصده الشاعر هو "لن أقاوم .. وإلى آخر نبض في عروقي سأساوم"!

ولأن الفلسطينيين يحبون الشعر الوطني والمقاوم فعليك أن تقنع أبنائك بأن يقرؤوا أكثر من ثقافة "هزي يا وز" و"تعلالي وأنا أجيلك" وبهذا تكون قد أثبت بأنك تستحق لقب "النظيف من التحريض"!

إياك أن تسمح لنفسك عن أدبيات الآخر التي تبرر القتل باسم "الرب" ... ولا عن التحريض الذي يدعو الى مكافأة من يقتل الفلسطيني.. وإياك أن تسأل رئيس اللجنة التنفيذية عما سيطلبه بشأن حركة كاهانا حي .. أو محاولات تدمير الاقصى .. ولا عن قبر باروخ غولدشتاين... ولا عن العفو الذي يصدره شاحاك "باشا" عن كل من يقتل طفلا فلسطينيا... أتدري لماذا؟ لأن أسئلتك تلك هي نوع من التحريض ...  وللتحريض تتمة!

 

* كاتب فلسطيني يقيم في الدانمارك.

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع