الانقلاب: ضباط الامن الفلسطينيون ينقلبون علي رئيسهم
2004/07/29
د.
بشير موسي نافع
تعتبر حالة الفلتان الامني والصراع السياسي الداخلي (التي وصلت الي حد
التراشق المسلح) التي شهدها قطاع غزة خلال الاسابيع القليلة الماضية
تطوراً بالغ الخطورة والدلالة فيما يتعلق بالوضع الفلسطيني الداخلي
وبالسياق الدولي والاقليمي للمسألة الفلسطينية. لقد بات من المتيقن
الان أن حركة الاحتجاج التي خرجت للتعبير عن المعارضة للرئيس عرفات لم
تكن مجرد رد فعل علي التعيينات الامنية والفساد الذي ضرب اطنابه منذ
سنوات في مؤسسات الحكم الذاتي، بل كانت ايضاً، واساساً، حركة سياسية،
بالمدلول المباشر للسياسة. ان المسؤول عن التحرك ضد الرئيس عرفات في
قطاع غزة، والذي اخذ في الامتداد الي الضفة الغربية، هو محمد دحلان،
الربيب السابق للسيد عرفات، القائد السابق للامن الوقائي في القطاع،
والوزير النافذ السابق في حكومة السيد ابي مازن.
والارجح ان تحرك دحلان ضد رئيسه قد جاء برضي من ابي مازن، وبتنسيق
وتحالف مع القادة الحاليين للامن الوقائي في القطاع، الذين يدينون
بالولاء لدحلان. ولعل من الصواب القول بأن هذا التحرك جاء ضمن سلسلة
واسعة ومنسقة من التحركات الاقليمية والدولية التي تستهدف الرئيس
الفلسطيني. ومن الصواب ايضاً الاستنتاج بأن عرفات يمر الان باقسي
امتحان مر به في حياته السياسية كلها، وانه يواجه تحدياً قد يضع بالفعل
نهاية لسلطته، ويلقي بالتالي ظلالا ثقيلة علي المستقبل الفلسطيني.
السؤال المهم هو لماذا هذه التحركات غير المسبوقة المناهضة لعرفات،
لماذا الان، ومن هي القوي التي شجعت عليها، وما الذي تسعي اليه علي وجه
التحديد.
يكاد محمد دحلان ان يكون ظاهرة صنعها عرفات بالكامل. فقد وجد هذا
الشاب، الذي نشط في صفوف فتح في الانتفاضة الفلسطينية الاولي، نفسه بعد
اتفاق اوسلو وقد تجاوز الكثيرين من قادة فتح في الداخل والخارج،
والكثير من ابناء جيله، بقرار عرفات تعيينه قائدا ً للامن الوقائي في
قطاع غزة. وفي السنوات القليلة التالية، استطاع دحلان من خلال نفوذ
الجهاز الذي ترأسه، من خلال علاقات متزايدة بينه وبين المسؤولين
الاسرائيليين، لاسيما بعد الحملة التي شنها الامن الوقائي علي
الاسلاميين في منتصف التسعينات، من خلال تقربه وتقاطعه مع السياسة
الامريكية تجاه القضية الفلسطينية، ومن خلال سلسلة من التحالفات
الداخلية، ان يوطد قدميه في دائرة الزعامة الفتحاوية الثانية، دائرة ما
بعد جيل اللجنة المركزية. ولكن اضعاف عرفات المستمر والمتعمد للجنة
المركزية وطموح دحلان الجامح يدفعانه الان لتحدي اللجنة المركزية
ذاتها، بل واستخدام اعضاء منها في انقلابه علي الشرعية. لم يخف دحلان
اعتراضه علي الطريقة التي ادار بها عرفات مباحثات كامب ديفيد الفاشلة
في صيف 2000، وربما كان فشل تلك المباحثات بداية الافتراق بين الضابط
ورئيسه وبداية بروز دحلان في اعين المسؤولين الامريكيين المتعاملين مع
الشأن الفلسطيني. خلال الفترة التالية، ابدي دحلان اعتراضه علي دعم
عرفات وتأييده للانتفاضة الثانية، وسرعان ما وجد ان الافضل بالنسبة له
الاستقالة من موقعه الرسمي، لاسيما بعد الاجتياح الاسرائيلي للضفة
الغربية وبعض قطاع غزة في ربيع 2002. ولكن الاستقالة لم تكن تعني فقدان
نفوذه في الامن الوقائي، ولا هي ادت الي قطع الخيوط بين دحلان ورئيسه.
ولذا فان اتخاذ دحلان مثل الخطوات التي اتخذها مؤخراً في قطاع غزة، من
تهديد واختطاف لرجال عرفات الرئيسيين في اجهزة الامن، تنظيم المظاهرات
المنددة بالرئيس، العمل علي السيطرة علي تنظيم فتح في قطاع غزة، وتشجيع
عناصر فتحاوية اخري في الضفة الغربية علي تحدي قيادة عرفات، هو تطور
نوعي في العلاقة بين الاثنين. ثمة احساس متزايد في قطاع غزة، خطأ كان
او صواباً، بأن ساحة الحسم قد اقتربت، وان شارون جاد بالفعل في خطته
الانسحاب من القطاع، وان علي من يريد السيطرة علي الشأن الامني
والسياسي في القطاع ان يبدأ استعداداته من الان. لا تتعلق المسألة
بفساد الجبالي وموسي عرفات وامثالهما، وهي عناصر فاسدة مفسدة بلاشك؛
ولكن معسكر دحلان وحلفائه لا يقل فساداً. المسألة هي في تعزيز المواقع
والنفوذ وامكانات السيطرة انتظاراً لتسليم السيادة في القطاع، ان كان
لنا ان نستعير المصطلح الامريكي في العراق. ولكن دحلان لا يتحرك
منفرداً، فدحلان قد اصبح جزءاً من الطبقة السياسية الفلسطينية في الضفة
والقطاع، وهذه الطبقة قد تعرضت للانقسام منذ انفجار الانتفاضة.
ثمة معسكر يري ان الظروف ليست ناضجة بعد لحصول الفلسطينيين علي وعود
اتفاق اوسلو، او علي التفسير الفلسطيني لهذا الاتفاق، الذي اصبح سقف
الطبقة السياسية الفلسطينية. ويعتقد هؤلاء ان علي الفلسطينيين تقديم
المزيد من التضحيات والصبر وعدم الاستعجال حتي تنضج ظروف الصراع، وتصبح
الظروف الاقليمية والدولية مواتية اكثر. يقف علي رأس هذا المعسكر ياسر
عرفات، بغض النظر عن الكثير من اعوانه وحاشيته الذين لا علاقة لهم
بنضال الناس ولا تضحياتهم. وهناك معسكر آخر، يضم امثال دحلان وابي مازن
ونبيل عمرو وياسر عبد ربه وآخرين، لا يجمعهم بالضرورة تحالف رسمي
ولكنهم متفقون علي ان السبيل الوحيد المتاح الان هو التفاهم مع ادارة
بوش، وضع نهاية للانتفاضة، تحجيم القوي الاسلامية المقاومة، والقبول
بما هو متاح اسرائيلياً. ان من التبسيط الحديث هنا عن التخوين، او عن
افضليات اخلاقية لدي المعسكرين، فكلاهما يضم فسدة وشرفاء، كلاهما يضم
انتهازيين وعناصر تتمتع باحساس عال من المسؤولية. أحداث القطاع، علي
نحو من الانحاء، هي تعبير عن هذا الانقسام.
في سياق اوسع، اثار عرفات في الاونة الاخيرة غضب بعض حلفائه الرئيسيين.
في القاهرة، كما في الكثير من العواصم العربية والاوروبية، ثمة شعور
متزايد بالاحباط تجاه عرفات، تزيد فيه صعوبة التعامل معه. بشكل من
الاشكال، نجح شارون في بيع مشروع الانسحاب من قطاع غزة للمصريين
والاوروبيين، كما ان القاهرة ابدت، علي الاقل في مطلع الامر، حماساً
مفاجئاً للعب دور في القطاع، تصورته، وايضاً في مطلع الامر، امنياً
وسياسياً معاً. لتأمين مشروع الانسحاب الاسرائيلي الجزئي من القطاع،
كان علي عرفات القيام بعدد من الخطوات ثقيلة الوطأة عليه ولا تنسجم مع
نمط قيادته. منها، علي سبيل المثال، توحيد الاجهزة الامنية، تغيير عدد
من قادة الاجهزة واظهار جدية اكبر في التعامل مع الملف الامني. ولكن
الخطر الاكبر علي عرفات جاء من مطالبته بالتنازل عن الكثير من
الصلاحيات (التي يخوله اياها القانون الاساسي للسلطة) لرئيس وزرائه،
بما في ذلك قيادة الاجهزة الامنية، والرضي بموقع قيادي رمزي وتشريفي.
خلال الاسابيع القليلة السابقة علي اندلاع احداث الانشقاق الداخلي في
قطاع غزة، كان عرفات لم يزل يقاوم الطغوط الممارسة عليه من القاهرة
والعواصم الاوروبية، فلا هو قام باعادة تنظيم الاجهزة الأمنية ولا هو
ابدي استعداداً للتنازل عن صلاحياته والقبول بدور رمزي. هذا الافتراق
بين عرفات من جهة والقاهرة والاوروبيين من جهة اخري، هو الذي دفع
لارسون للتقدم الي الامم المتحدة بتقريره الاستثنائي الذي تضمن نقداً
صارخاً وحاداً للرئيس الفلسطيني، وهو الذي شجع دحلان لاطلاق تحركه
المناهض لقيادة عرفات في قطاع غزة. بل ان هناك من الدلائل علي بدء تحرك
امريكي ـ اوروبي ـ عربي لاعادة ابي مازن الي رئاسة الحكومة الفلسطينية.
عرفات بالطبع هو رجل مسن، وبالرغم من ان اسهمه الشعبية قد صعدت عالياً
منذ فشل مباحثات كامب ديفيد، فان صبر الشارع الفلسطيني علي فساد اعوانه
وحاشيته قد وصل حده الاقصي. ولكن الغضب من الفساد والمفسدين لا يعني ان
الفلسطينيين، داخل فلسطين وخارجها، يرغبون في استبدال نمط من الفساد
بنمط آخر، او استبدال ما تبقي من وعود أوسلو بالركوع امام شارون،
وتمزيق الضفة والقطاع بين المستعمرات اليهودية ومناطق النفوذ.
الانتفاضة هي التي اجبرت شارون علي طرح مشروع الانسحاب من قطاع غزة،
فلماذا يجب ان يسلم القطاع لمن نددوا بالانتفاضة منذ يومها الاول؟ فوق
ذلك فان مشكلة الرئيس الفلسطيني مع شعبه لا تتعلق بأساليب التعامل مع
واشنطن وتل أبيب، التي هي عناوين الصراع بين عرفات وخصومه داخل حركة
فتح. انقسام الطبقة الحاكمة في سلطة الحكم الذاتي هو انقسام فوقي ليس
له من جذور في الشارع الفلسطيني، بينما يقف الشارع موقف اللامبالاة من
ادعاءات اعوان الرئيس والمنقلبين عليه. ولا يقل اهمية من ذلك ان حماس
القاهرة المبكر لمشروع شارون ولتعهد دور فعال في قطاع غزة، وهو الحماس
الذي تسبب في الافتراق بين عرفات والقيادة المصرية، أخذ الان في
الفتور. كما كان متوقعاً من البداية، فان مشكلة القاهرة الاساسية هي
آرييل شارون وليس ياسر عرفات. شارون لا يريد دوراً محترماً لمصر في
فلسطين، ولا يريد الاستجابة لاي من الشروط التي وضعتها القاهرة لتعهد
دور امني وتنظيمي في القطاع.
ان التحدي الذي يواجهه عرفات اليوم لسلطته يفوق بكثير ذلك الذي واجهه
في البقاع وطرابلس في 1983. كان انشقاق 1983 انشقاقاً لمجموعة صغيرة من
العسكريين المسيطرين علي مواقع محدودة في جهازي فتح السياسي والعسكري
في لبنان. وقد فشلت المجموعة في الحصول علي دعم وتأييد الفلسطينيين
خارج لبنان، كما فشلت في اكتساب شرعية عربية ودولية خارج نطاق التأييد
السوري الضمني والتشجيع السوفييتي غير المعلن. اليوم يواجه عرفات حركة
تحد تزداد اتساعاً في قلب قاعدة سلطته، في حركة فتح في الضفة والقطاع،
بعد ان قام هو شخصياً بتهميش فتح وكل الوضع الفلسطيني في الخارج. وتجد
هذه الحركة تأييداً لا يخفي من الاوروبيين والامريكيين والاسرائيليين.
بين خصوم الرئيس الفلسطيني من عقد العزم علي السير في الانقلاب علي
الشرعية الي نهايته، وهو ما قد يؤدي الي صراع فلسطيني داخلي مكلف
وطويل. وان نجح هؤلاء في انقلابهم فسنشهد بداية الانفصال بين مصيري
الضفة والقطاع، يعيد القطاع الي اشراف مصري غير مباشر ويقسم الضفة
الغربية بين السيطرة الاسرائيلية وحالة ما من النفوذ الاردني.
بيد ان عرفات، كما هو معرف، ليس باللقمة السائغة، وقد يستطيع، ان نجح
في حشد انصاره داخل فتح والدعم الجماهيري خارجها، اضافة الي التفاف
القوي السياسية الفلسطينية الاخري حوله، ان يتجاوز المخاطر المحيقة به.
وسيكون عونه الرئيسي اتضاح التأييد الاسرائيلي الفعلي للانقلابيين،
واتضاح المصير الذي يتهدد الوضع الفلسطيني كله بنجاحهم. ولكن قيادة
عرفات، مهما كان مستوي نجاحه، لن تستمر علي ما هي عليه، وسيكون علي
الرئيس الفلسطيني تقديم الكثير من التنازلات لخصومه وحلفائه علي
السواء. المأساة ان هشاشة الطبقة السياسية الفلسطينية، التي كانت
دائماً لعنة مسلطة علي الشعب وقضيته، تعود اليوم من جديد، وبالرغم من
التضحيات الهائلة التي يقدمها الشعب والانتصارات التي يحققها، لتبديد
التضحيات وتحويل الانتصارات الي هزائم.
|