ديمقراطية فتح: عن أي ديمقراطية نتحدث


عاطف أبو سيف- غزة

تجري هذه الأيام عملية انتخابات شاملة في صفوف حركة فتح في قطاع غزة. ويتم النظر لهذه الانتخابات من باب تجديد دماء الحركة التي عقد مؤتمرها الحركي الخامس والأخير قبل 15 سنة. خلال تلك الفترة عصفت بفتح رياح مفصلية في مسيرتها التي تشارف على الأربعة عقود منها دخولها في عملية السلام وتوليها المسئولية التاريخية عن اتفاق السلام مع اسرائيل وبالتالي قيادتها لدفة الحكم في الكيانية السياسية الناشئة عقب التوقيع على هذه الاتفاقية، نقصد السلطة الوطنية، وبعد ذلك اندلاع انتفاضة الأقصي وضبابية مواقف الحركة بشأن المواجهة من جهة وبشأن المفاوضات من جهة أخرى وتبع ذلك ظهور الاختلاف غير المفسر وغير المعلن عنه بين مجموعات الحركة العسكرية وبين قيادة الحركة.


شكل توقيع الحركة لاتفاق السلام مع اسرائيل واحد من الانعطافات الحادة في تاريخ الحركة ولم يقتصر الأمر على مسئولية فتح الاخلاقية والوطنية عن مثل هذا الاتفاق وبالتالي الدفاع عنه امام رفض مجمل الحركة الوطنية بل شمل ذلك ولاية فتح على مقاليد الحكم في السلطة الفلسطينية. فمن جهة معارضة الاطر والتنظيميات الاخرى للاتفاق جعل فتح وحيدة في دفة القيادة ومن جهة أخرى دفع فتح إلى القصور وربما عدم المقدرة على التمييز بين التنظيم وبين السلطة، نتيجة ذلك أن الكادر التنظيمي عادة هو ذاته عماد الهيكل البيروقراطي للكيانية الناشئة. غير ان وضع الامور بهذه الطريقة إفراط في التبسيط.

 من نتيجة ذلك أن الكادر التنظيمي ذاب في البناء الهرمي للسلطة واصبحت السلطة نقطة الجذب الكلية والمطلقة في عمله ونشاطه. ولم يكن من شأن هذا أن يعيب فتح إطلاقاً إذا ان فتح رأت في السلطة مشروعها الحركي في ظل الطلاق الذي اعلنته الحركات الوطنية والإسلامية مع فتح ومع السلطة عقب توقيع اوسلو. بيد ان المطب الذي وقعت فيه فتح كان مع اندلاع انتفاضة الأقصى. في بداية الأمر بدا الأمر مثل معظم الهبات التي ظهرت سابقاً قي الفترة بين توقيع اوسلو وبين سبتمبر 2000 مثل عام 1996 و1998 غير انه مع تواصل الانتفاضة ومن ثم جنوحها نحو العمل المسلح وبعد ذلك نحو الاعمال الاستشهادية داخل القدس ويافا والخضيرة وحيفا واطلاق القذائف داخل الخط الاخضر برزت علامة الاستفهام المركزية والتي طوال عقد التسعينيات حاولت فتح تجاهلها وتمثلت علامة الاستفهام هذه بالسؤال الكبير: هل فتح مازلت حركة مقاومة أم انها في طور الانتقال إلى حزب سياسي.

 لنتذكر ان مثل هذا الجدل دار لفترة وجيزة في صفوف فتح العليا في شهور السلطة الأولى لكنه سرعان ما اختفي خلف شاشة رقيقة من النسيان. نتيجة مثل هذه الضبابية كانت واضحة ومتوقعة ان تبني الحركة الرسمي لاتفاقية السلام لم يقنع القيادة الميدانية للتنظيم بأن ممارسة المقاومة باتت محرمة. وبات من نافل القول بأن المقاومة جزء من تعزيز الموقف التفاوضي لفتح فحركات التحرر كلها كانت تفاوض في المعارك. غير ان هذا لم يلقَ ترحيباً علنياً من الحركة وبالتالي كان هذا الترهل في مواقف الحركة والتفسخ في صفوفها. وعليه ظهرت المجموعات والأجنحة العسكرية مثل كتائب شهداء الأقصى تحديداً والتي شكلها وقام عليها الكادر التنظيمي العادي . هذه المجوعات اصرت على انتمائها للحركة وعلى تمثيلها لمواقف القاعدة التنظيمية رغم عدم ظهور موقف محدد حول ذلك من قيادة الحركة، ومرد ذلك ايضاً عدم حل التناقض بين المقاومة وعملية السلام. غير ان مثل هذه المجموعات المسلحة هي التي ردت لفتح عافيتها في استطلاعات الرأي بعد ان تدهورت إلى مصاف التنظيمات غير الطليعية.


ولما كانت فتح ذاتها فشلت في فصل نفسها عن السلطة لدرجة التي باتت معها الاثنتان وجهين لعملة واحدة في نظر الكثير من المحللين، فإن المطالب بالإصلاح التي عصفت بالسلطة من كل صوب وحدب أصابت فتح. إذا انه يصعب اصلاح السلطة دون اصلاح فتح. وبات اصلاح فتح هو شرط لاصلاح النظام السياسي بوصف فتح هي عماد هذا النظام. يقول منظرو ما يعرف بالدمقرطة Democratization بأنه من العبث الحديث عن عملية ديمقرطية تقودها احزاب غير ديمقراطية. بكلمة أخرى فإن حزباً غير ديمقراطي لا يمكنه أن يقود العربة السياسية إلى الطريق الديمقراطي وحكمة ذلك بسيطة بأن فاقد الشيء لا يعطيه.


غير ان القصة تتجاوز هذه السطور إذ ان خطط شارون للانسحاب من غزة والجدل الفلسطيني حول الوضع بعد الانسحاب جعل فتح تنظر بجدية وخطورة للمرحلة المقبلة،وربما من هذا الفهم يمكن التمعن في اقتصار الانتخابات داخل فتح على اقاليم فتح السبعة في قطاع غزة دون أقاليم الضفة الغربية ودون اقاليم الشتات والساحات الاخرى. هذا يثير مجموعة من علامات الاستفهام اولها هل تنظر فتح بجدية لعميلة الانتخابات تلك ام انها مجرد ردة فعل على وضع سينتج عما قليل. وإذا كان الامر كذلك فلماذا لم يتم العمل بجدية على انتخابات شاملة لفتح. يتعزز هذا اذا ما ادركنا بأن القانون الانتخابي الذي تم وضعه لانتخابات اقاليم غزة تم صياغته من قبل الحركية العليا في غزة ولا نعرف تحديداً اذا ما تم او سيتم تعميمه على باقي الأقاليم الاخرى. وفي حال لم يتم اعتماده ليكون اساس الانتخابات في باقي الأقاليم فإن من شأن ذلك ان يخلق خللاً وعدم تناسق في البناء التنظيمي إذا ان هذا القانون أولاً لا يتوافق مع اللوائح الداخلية للنظام الداخلي للحركة التي من شأن المؤتمر الحركي العام بتوصية المجلس الثوري اقرارها أو تعديلها. ثانياً هذا القانون يحدد عضوية الحركة ومن يحق له المشاركة في الهيئات الانتخابية لكل منطقة ومن ثم فرز مؤتمرات الأقاليم وقيادتها. إن من شأن ذلك ان يخلق معايراً متباينة لعضوية فتح في حال أن كل ساحة اقرت شروطها الخاصة للانتخابات طالما ابتدأ الأمر بقطاع غزة.


والأهم من ذلك بأنه من غير الواضح في اذا ما كانت هذه الانتخابات في غزة هي جزء من كل أم هي كلٌ برمته. هل سيتم عقد المؤتمر الحركي السادس مثلاً؟؟ هل ستتعدي انتخابات فتح القاعدة وتنتقل العدوى إلى القمة، أم ديقراطية فتح هي حماسة زائدة! أم هل هي تحضير لوضع سياسي وتهيئة أجواء ليس إلا.


هناك عشرات الأسئلة التي لابد ان تجيب عليها فتح قبل ان تباشر في دمقرطة صفوفها. إذا كانت العملية الديمقراطية هي قانون اللعبة كما يقول مفكرو السياسة فكيف يمكن لجسد تنظيمي غير منتخب مثل الحركية العليا ان تشرف على انتخاب هيئات تنظيمية منتخبة. عادة يحدث ان تشرف هيئات مستقلة على عمليات الانتخابات مثل منظمات دولية أو لجنة انتخابات وطنية لكن حين يدور الحديث عن انتخابات تنظيمية لا يمكن لهيئة تنظيمية قيادية مُعَيَنة ومُكلفة أن تشرف على دمقرطة الهيئات التنظيمية الاخرى. ومنطق ذلك غياب المنطق في ذلك. فالحركية العليا تم تعينها من قبل قيادة الحركة لحل ازمة غياب التمثيل لتنظيم الداخل في البناء التنظيمي في فترة الاحتلال، وعليه شُكلت مرجعيتان واحدة في غزة والاخرى في الضفة. ولما كان الحديث يدور حول دمقرطة الحركة كان يجب ان تخضع هذه المرجعيات الحركية للانتخابات ضمن التسلسل التنظيمي من المنطقة للإقليم فالساحة وكان يجب أن تشرف على الانتخابات هيئات تنظيمية منتخبة مثل لجنة من اعضاء المجلس الثوري المنتخبين في المؤتمر الحركي الخامس او مثلاً لجنة من اعضاء التشريعي ضمن لوائح فتح في المجلس حيث ان هؤلاء انفسهم تم انتخابهم في قواعد الحركة في كل اقليم قبل ان يتم انتخابهم ايضاً من قبل المنطقة الانتخابية، وكان يمكن ان يتم تشكيل لجنة انتخابات تنظيمية عامة مؤلفة من هئيات تنظيمية مختلفة، مع مرجيعة قانونية يمكن ان يتشاكى إليها المختلفون بشأن نتائج الانتخابات. إن من شأن مثل هذه الطريقة التي تجري فيها الانتخابات ان تجعل من عميلة الانتخابات في فتح عميلة قيصيرة يموت فيها الجنين إذ انه من الصعب توقع واقع ديمقراطي ضمن نسق ومنهج عمل غير ديمقراطي.


والحديث عن شرعية اشراف المرجعية على انتخابات الأقاليم يعكس جزء من التناقض الذي لابد ان تحله فتح والقائم حول تنظيم الداخل وتنظيم الخارج إذ ان عشر سنوات من مرحلة البناء والتحضير للدولة كانت كفلية بانهاء ذلك الفصل التنظيمي. ليس من المؤكد مثلاً إذا ما كانت عضويات الكثير من الأخوة العائدين في المناطق والأقاليم المختلفة قد تم دمجها في الهيئات الانتخابية للمناطق. فإقليم مثل اقيلم غرب غزة تحديداً حيث تمركز نخب السلطة الوطنية لابد ان يشمل مئات المنتسبين لفتح، السؤال هل تم دمج مثل هؤلاء. غير ان هذا سؤال ليس مقصوراً على فتح بل يعصف بمجمل المشروع الوطني. في ذات المنطق يجب النظر إلى مستقبل الحركية العليا في غزة وفي الضفة وموقعها من الجسد التنظيمي وعلاقتهما بالهيئات التنظيمية الأخرى.


المراقب للشارع في غزة هذه الايام يرى الفاعلية والحماسة التي يشارك فيها الكادر التنظيمي في الانتخابات التي تجري. إذا ان هذه هي المرة الأولى التي تجري فيها انتخابات بهذه السعة في التنظيم الأكبر في داخل فلسطين مع ان الكثيرين من هؤلاء قد شاركوا في انتخابات تنظيمية داخل السجون لكن بالنسبة للكثيرين هذه هي المرة الاولى التي يستطيعون فيها ان يقولوا كلمتهم ورأيهم في القيادة التنظيمية العليا في أقاليمهم خصوصاً بعد عقد من تجربة السلطة الوطنية. وربما امكن القول ان الحماسة والنقاشات التي يشهدها الشارع الغزي حول هذه الانتخابات لا يتعاظمها إلا فترة الانتخابات التشريعية والرئاسية. غير ان الأسئلة الأهم تتمحور حول توسيع عميلة المشاركة السياسية وعدم تضيق النقاش على فتح بل توسيعه ليشمل النظام السياسية بكليته. وإذا كان من غير الممكن الحديث عن نظام سياسي ديمقراطي تقوده احزاب غير ديمقراطية فإنه من غير الممكن ان تترعرع الديمقراطية في الأحزاب في بيئة سياسية غير ديمقراطية.

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع