دحلان والدحلانية..؟!
بقلم :
الاستاذ محمد أبو عزة
أعجبنا الأمر أم لم يعجبنا، هناك ظاهرة اسمها "الدحلانية"، فرضت نفسها
على سطح الحياة الفلسطينية.
ويتحاشى كتّاب فلسطين وصحافيوها في الضفة والقطاع الحديث عنها ويمتنعون
حتى عن قول بعض ما يجب أن يقال، ناهيك عن تسمية الأشياء بأسمائها..
يفعلون ذلك من باب "التقية" في ظل التخويف الذي يمارَس ضد من يجرؤ..
وربما لأن تناولهم لهذه الظاهرة يجرّهم لفضح بعض أساليب القيادة ، التي
أدارت الأمور دائما وفق قواعد لعبة "الإعلاء والتخفيض" واللامبالاة
والفوضى وترك الأمور على علاتها، وغيرها من الظواهر التي لا مندوحة عن
فضحها، والقرارات الديماغوجية التي ندفع ويدفعون اليوم ثمن نتائجها
الذي نعرفه ويعرفونه جيدا، وبينها ظاهرة "الدحلانية".
إن
محمد يوسف دحلان هو واحدة من مفرزات الصفاقة التي استشرت .
لقد
كان "رسول حمزاتوف" -شاعر داغستان الكبير- ينصح: املأ فم الحصان حديدا
قبل أن يملأ فمك دما.
وقد
رحل "حمزاتوف" عن عالمنا، لكن نصيحته بل نصائحه، بقيت لمن يجيد قراءة
النصائح..
و"محمد يوسف دحلان" يطل علينا من بعض الفضائيات العربية في مقابلات
مرتبة ومدفوعة الثمن على أنه "حصان المرحلة".
وإذا كان الدحلان "حصانا" كما تحاول بعض الفضائيات تقديمه، فإن الأمر
المعروف جيدا أنه تربى على "معلف عرفات"، وأكل من قمحه وشعيره وتبنه،
ونام في "بايْكَته" .
والمعلومات الموثقة التي بين أيدينا تقول إنه من مواليد 29 أيلول 1961
في أسرة لاجئة معدِمة مثل كل الأسر اللاجئة، درس في مدارس وكالة الغوث،
وحاول إكمال دراسته بالجامعة الإسلامية في غزة، وفي السنة الأولى
الجامعية شارك في تأسيس "الشبيبة الفتحاوية"، أي أنه انتمى إلى حركة
فتح عندما كان في العشرين من عمره.
ثم
اعتقلته سلطات الاحتلال عدة مرات بين أعوام 1981و1986 بشكل متقطع، لمدة
شهر ونصف في كل مرة، ثم أبعدته عن فلسطين إبان تأجّج الانتفاضة
الأولى..
وتضيف المعلومات أن محمد يوسف دحلان خرج بـ "الزنوبة" من خانيونس عام
1988، وتنقل بين ليبيا التي كان فيها منبوذا ومشكوكا فيه –كان اللقب
الذي يطلق عليه هو "العصفور"، ومعناه الجاسوس المدسوس- ومن ليبيا انتقل
إلى الجزائر، ومنها إلى تونس حيث عاش بالقرب من "عرفات" الذي قام
بتقريبه والإعلاء من شأنه وإحاطته بالرعاية..
وكان "الدحلان" لا يدخر وسعا في التعبير عن تعلقه بـ"القائد الرمز"،
حتى كان يناديه بـ "يا أبي".
وبحسب "ويتلي برونر" –أحد مسؤولي وكالة المخابرات المركزية- تم تجنيد
"الدحلان" في المخابرات الأمريكية في أواخر الثمانينيات.
ثم
إنه كان بمعية محمود عباس"أبو مازن" الذي أدار المباحثات السرية في
"أوسلو" التي انتهت بإقرار الاتفاق الشهير..
والمشوار الذي مشاه "الدحلان" بين خانيونس وليبيا والجزائر وتونس، لا
يبين منه أن المذكور تخرج من أكاديمية عسكرية.
وإذا حدث ذلك في الجزائر أو في تونس مثلا، فإن فترة الأعوام الستة
"1988-1994" لا تسمح له بالحصول على رتبة "العقيد"، وأقصى رتبة عسكرية
يمكن أن يتحصّل عليها لا تتجاوز رتبة الملازم أو الملازم أول. ورتبة
"العقيد" هذه "منحة" أو "أعطية"، حصل عليها من "عرفات" الذي يملك وحده
حق ترفيع "الزُّباط" حتى إلى رتبة الفريق" وعدد "الزباط" الذين حصلوا
على رتبة العميد واللواء في الأجهزة الأمنية والشرطية الفلسطينية أكثر
من عدد أمثالهم في كثير من الجيوش النظامية..
ألم
نقل إنه تربى على "معلف" عرفات..
وعلى كل فإن رائحة "الدحلان" فاحت بقوة حين تسربت تفاصيل مشاركته مع
مسؤولين صهاينة من "الشين بيت" والجيش في وضع خطة "روما" لاحتواء حركة
"حماس"، وهو ما طبقه حين أصبح مسؤولا للأمن الوقائي، فقد اغتال العديد
من المجاهدين في الزنازين وتحت سياط المحققين، واعتقل من اعتقل، وأبعد
من أبعد، بالإضافة إلى قيامه بتسليم الصهاينة قوائم بأسماء نشطاء
المقاومة.. والوقائع معروفة للقاصي والداني في فلسطين.
أما
عن فساده فقد كشفت عنه الممتلكات التي آلت إليه، سواء الفيلا الفاخرة
في النصيرات، أو قصر "الشوا" وفندق "الواحة" على شاطئ غزة – وهو من
فنادق الدرجة الأولى"!" -.
وقبل أن يُسأل من أين لك هذا !؟ انفجرت فضيحة "معبر كارني" –عام 1997-
حيث تبين أن أكثر من أربعين بالمائة من الضرائب التي يحصّلها الاحتلال
على شكل رسوم عن المعبر من المواطنين الفلسطينيين المضطرين للمرور،
تحول لحساب "سلطة المعابر الوطنية الفلسطينية".وتقدّر قيمة هذه الرسوم
والضرائب بحوالي مليون شاقل شهريا، ثم ظهر أن هذه السلطة غير موجودة،
والمبالغ تحول إلى حساب "الدحلان"..؟!
ولدى "الدحلان" اليوم –بشهادة بعض العارفين- أكثر من خمسين مليون
دولار، ينفق منها على المحاسيب والأنصار وأسطول السيارات الفارهة التي
يتملكها ، و"فرقة الموت" التي اصطنعها للتخويف والسلبطة وفرض الخوات في
ظل اختفاء روح الثورة من نفوس عديد من القادة والكادرات ، مخلية مكانها
للتبرجز والبيروقراطية والوصولية، وإحلال التسابق على المراكز والروح
العشائرية والجهوية والانحرافات المسجلة.. التي تشكل بمجموعها عبئا على
الشعب الفلسطيني فوق أعبائه الكثيرة .
ولقد ظن الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة، بل وفي أقطار الشتات، أن
الجحيم الذي يعيشه شعبنا لا يمكن أن يسمح لأي كان بتناسي الآلام وحالات
الحداد التي تحملتها كل فئات شعبنا.
وفكر بأن القيادة لا يمكن أن تظل على تآلف إلى ما لا نهاية مع
المساومات والحسابات الشخصية والمناورات الأكثر خسة، وأن "تطنش" على
أسوأ أمثلة الفساد والرشوة التي تجري على مسمع ومرأى الجميع. وترى أن
عددا من الأفراد ينفق نهرا من المال الرامي إلى الفساد، وأن هذا
الإنفاق لا يراقب استخدامه أحد، واتصالات تجري هنا وهناك للحصول على
المزيد من الإمدادات المالية اللوجستيكية التي تساعدهم في تقوية
مراكزهم..
لكن
ذلك يظل أهون الشرور في نهاية المطاف..
إن
الشر الأكبر هو في السيناريو الموضوع للآتي من الأيام..
وقد
تعجل "الدحلان" الإعلان عن هذا "السيناريو" من العاصمة الأردنية قبل
ثلاثة أيام، حين توعد بأن يوم العاشر من آب "أغسطس" الجاري سيكون ساعة
الصفر لتيار "الإصلاح" الذي سيستأنف التحرك بقيادة دحلان طبعا.. وهذا
التوقيت يجئ طبوقا مع يوم التاسع من آب "أغسطس" الذي أعلن الحاخامات
الصهاينة أنه سيكون يوم "شغب يهودي". لأنه يصادف ذكرى سقوط الهيكل
وخراب البيت اليهودي.
وتحت ستار الضجيج الذي يثيره اليهود عند حائط البراق، يتحرك "الدحلان"
.
لقد
سقطت خارطة الطرق أو الطرق مرتين:
المرة الأولى عندما وضع عليها شارون أربعة عشر تحفظا تلغي مضمونها
وتعطله..
والمرة الثانية على يد الرئيس الأمريكي نفسه صاحب الرؤيا، حين قدم
لشارون –في الرابع عشر من نيسان- تسهيلات في مسألة الحدود والمستوطنات
وحق العودة للاجئين، وجعل التبني الأمريكي في هذه القضايا نسفا لمبدأ
المفاوضات، وفرضا مسبقا لمضمون الحل النهائي وإلغاء عمليا لفكرة الدولة
الفلسطينية.
وتلا ذلك إعلانه أنه يعتقد أن موعد إنشاء الدولة الفلسطينية في نهاية
عام 2005 لا يمكن الحفاظ عليه، بمعنى أن إدارته لم تعد متمسكة برؤيا
بوش، أو بوعد إنشاء الدولة الفلسطينية حسب خريطة الطريق، دافعا إلى
الواجهة بخطة جديدة، تتلخص بوضع غزة تحت إشراف مصري، وإحالة ما يتبقى
من أراضي الضفة الغربية وراء جدار الضم لتكون تحت الإشراف الأردني.
ولإخراج هذه الخطة إلى حيز العلن تم تقاسم الأدوار:
"إسرائيل" ترفض التفاوض مع القيادة الفلسطينية الحالية، وتعبر عن قلقها
من وقوع قطاع غزة تحت سيطرة حركة حماس والجهاد الإسلامي بعد انسحاب
إسرائيل من القطاع بموجب خطة شارون المعدلة لـ "فك الارتباط مع قطاع
غزة".
وكي
تتم خطة فك الارتباط، أي الانسحاب من غزة أو إعادة الانتشار فيها
وحولها لا بد من جهة أمنية تسيطر على القطاع ولها مصلحة في الإبقاء
عليه هادئا .. وهذه الجهة هي مصر.
ولكن مصر لا تريد أن تغرق في رمال غزة، ولذلك نصحت بعدم استبعاد
الفلسطينيين..
وتم
تعديل الخطة بحيث أصبحت تنص على نزع صلاحيات "الرئيس" –عرفات- وتحويلها
إلى رئيس الوزراء الذي يحولها بدوره إلى وزير داخلية مضمون وموثوق
يتعهد بضرب "الإرهاب"، أي بضرب "الانتفاضة" و"الحركات المجاهدة" وشطب
حركتي حماس والجهاد، وطي "كتائب الأقصى" تحت الإبط..
والتعديل الثاني على الخطة يتخلص بفكرة تبادل الأراضي بين "إسرائيل"
ومصر والفلسطينيين.. كصيغه سلام دائم في المنطقة.
كيف
ذلك؟
تسلم مصر لـ "إسرائيل" – حسب الخطة الأمريكية الصهيونية – أرضاً واسعة
محاذية لجنوب غزة بمساحة 600 كيلو متر مربع تبني فيها مدينة كبيرة تتسع
لمليون نسمة بتمويل أمريكي وأوروبي، وتحتوي هذه المدينة على ميناء عميق
وسكة حديد ومحطة طاقة ومحطة تحلية مياه ومناطق صناعية كبيرة، وإلى هذه
المدينة المحدثة يتم ترحيل سكان المخيمات الفلسطينية من الضفة الغربية
وقطاع غزة..
وفي
مقابل ذلك، تحصل مصر على قطعة أرض أصغر بثلاث مرات من القطعة التي
تتخلى عنها، ولكنها مواجهة لمنطقة الكونتيلا، كما يسمح لمصر ببناء نفق
يمر تحت منطقة النقب بطول 30 كم يضم طريقا سريعا للسيارات وسكة حديد
وأنبوبين للنفط والغاز.. وبذلك ترتبط مصر بالأردن والسعودية والعراق
برا –تحت الأرض- .
ويتخلى الفلسطينيون في الضفة الغربية عن جزء من أراضيهم مقابل "الشقفة"
التي سيتلقونها من المصريين، هي المنطقة التي تم ضمها لإسرائيل بواسطة
جدار الضم التوسعي.
ومعنى هذا أن كل التنازلات التي قدمتها القيادة الفلسطينية الحالية في
الثلاثين سنة الماضية عبدت الطريق لهذه النهاية المأساوية التي يراد
فرضها..
لقد
قررت القيادة الحالية قبل ثلاثين سنة في مجلسها الوطني الثاني عشر الذي
انعقد في مبنى جامعة الدول العربية في القاهرة، الموافقة على إقامة
"سلطة وطنية فوق أية أرض فلسطينية يتم تحريرها" ثم استدرك عرفات فأضاف
عبارة قصيرة هي "أو يتم انسحاب الإسرائيليين منها"، ودواعي ذلك واضحة.
يومها جرى اتهام المعارضين بالجمود وإضاعة الفرص التاريخية ووضع القضية
الفلسطينية في ثلاجة الانتظار..
وتلا ذلك القرار الأخطر، فقد أقر في دورة المجلس الوطني في آذار 1977
"فتح باب الحوار مع القوى اليهودية داخل وخارج إسرائيل".
ومن
الحوار مع القوى اليهودية المعارضة للصهيونية، إلى قرار يجيز الحديث مع
أية قوى في إسرائيل، تؤمن بحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة.
وصولا إلى مجلسهم الفلسطيني في تشرين الثاني "نوفمبر" 1988 بالجزائر،
حيث جرى الاعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي 242 وبتعديل الميثاق الوطني
الفلسطيني.
ثم
جاءت مدريد "من دون تمثيل مباشر للفلسطينيين"، ومن خاصرة مدريد كانت
أوسلو، والنتائج ماثلة على الأرض.
وحين نقول "مجلسهم" فإننا نعني أنه مجلس القيادة، ذلك أنه بحسب منطق
الاستئثار فإن فتح تملك النصف زائد واحد في كل المنظمات الشعبية
والنقابات المهنية والدوائر والمؤسسات الفلسطينية، بما في ذلك المجلس
الوطني الفلسطيني.
أي
أن كل القرارات التي تتخذ في هذه المؤسسات والدوائر..هي قرارات فتح
ونعود إلى برنامج شارون-بوش الذي أصبح في مراحله الأخيرة "حسب ترتيبات
بوش-شارون"
المطلوب للبدء بتنفيذ البرنامج التصفوي وزير داخلية "فلسطيني" موثوق،
يمسك الأجهزة الأمنية المؤهلة والمغسولة الدماغ، ويحركها في الوقت
المناسب لاجتثاث البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، وتجفيف المنابع
كما تجفف البحيرة لاصطياد سمكة..
ووقع الاختيار على محمد يوسف دحلان الذي تم تجريبه في أعوام سابقة
عندما كان رئيسا لجهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة..
وهكذا صار "الكولونيل دحلان" الفتى "الذهبي" الذي تراهن عليه واشنطن
وتل أبيب.
إن
لديه فائضا ماليا يصل إلى خمسين مليون دولار وربما أكثر.
وجهات كثيرة في أمريكا وبريطانيا وعدته بأربعمائة مليون دولار..
وبهكذا مبلغ يستطيع أن يشتري المحاسيب والمطيباتية أو "زفة الفل" –حسب
تعبير الدارجة المصرية- ولديه برنامج طليطلة" لحكم قطاع غزة بالقانون..
والإدارة الأمريكية تسانده حتى العظم، ألم يقل الرئيس الأمريكي على
مسامع بعض المسؤولين العرب في العقبة: هذا الشاب أحبه..
وهو
–دحلان- ينطق الإنجليزية بلهجة أهل "ويلز" وعنده شهادة طويلة عريضة
تبين تفوقه في البروتوكول "الأكل مع الأكابر بالشوكة والسكين، والرقص
على ألحان موزارت وباغاينني، وشرب نخب الملك أو الملكة عند قرع
الكؤوس".
ثم
أن الكثير من القيادات العربية أدت اليمين الدستورية في كنيسة
"ويستمنستر" أولا قبل تؤدي هذا اليمين أمام شعوبها..
ألم
يحلف الملك فيصل الأول اليمين في الكنيسة البريطانية قبل أن تحمله
الطائرة إلى العراق ليجلس على العرش، وليورث هذا العرش لابنه غازي
وحفيده فيصل الثاني..
ولماذا لا يرفس هذا الحصان الدحلان أو شبيه الحصان بعد أن شبع على معلف
عرفات..؟
إن
أمامه قيادة شاخت أو ترهلت -حسب قوله هو- وحكومة من دون صلاحيات، ومجلس
تشريعي فقد أهليته قبل أن يمتلكها، وأجهزة أمنية وشرطية بمائة رأس،
تتنافس وتتناحر حتى الاحتراب..
وهناك أزمة خانقة بسبب "الاختلال" وبسبب "الاحتلال"..
فلماذا لا يتقدم هذا الفتى "العجيبة" ليحمل الخلاص للشعب الفلسطيني..؟
باسم "المصلحة العامة" و"محاربة الفساد" و"جلب السلام المغيب" تحرك
الدحلان وصال وجال وفوق السجادة التي مدتها واشنطن.. ومن فوقها يعقد
التحالفات، ويحرك المحاسيب لتنفيذ تفجير هنا وحريق هناك واغتيال في
مكان ما، مع الحرص على أن يكون القتيل من دون بكايات. –كما هو حال خليل
الزبن-
ولو
خير الدحلان لاختار التمسك بالصبر، لكن واشنطن وتل أبيب تتعجلان التحرك
ولذلك بدأ يرفس ويعض، وخرج من عباءة الناصح، ورمى عمامة المقري
والإمام..
لو
أنكم ملأتم فمه حديدا من البدء..
إصلاحات دحلان.. حق يراد به باطل
لا
يختلف اثنان على أن الفساد المنتشر داخل أجهزة السلطة الفلسطينية هو
جزء من تركيبتها، ومحاربة الفساد الذي يرخي سدوله باطمئنان على
السلطات التنفيذية والقضائية وحتى التشريعية يعني بشكل أبو بآخر فتح
النار على السلطة برموزها وقياداتها وموظفيها الكبار.
الفساد والذي يشكّل نتيجة حتمية لحالة التفرد بالقرار السياسي والمالي
والإداري، ليس وليد اللحظة ولا وليد المرحلة وإنما تمتد جذوره إلى ما
قبل "أوسلو"، وحيث إننا هنا لسنا في معرض تأريخ الفساد داخل مؤسسات
م.ت.ف، فسنكتفي بالإشارة إلى أن اتفاقيات أوسلو ذاتها كانت إحدى نتائج
الفساد، والتي أصبحت سبباً في تقنين تقنينه وإلباسه ثوب الشرعية ضمن
نظام إداري وسياسي فريد من نوعه.
ولا
نجافي الحقيقة إذا قلنا إنه من حيث النتائج لم يطرأ تغيير إيجابي على
حياة الفلسطينيين بعد اتفاقيات أوسلو، ولا نريد أن نقول بصريح العبارة
إن السلطة (كحَالة) كانت صنو الاحتلال من حيث الممارسة والنتيجة،
فالشعب الفلسطيني والذي عايش النكبات والمآسي والمجازر الصهيونية
والإبعاد والتهجير، كان مقدراً عليه أن تتسلط حفنة من العابثين على
حياته ومصيره متخذة من معاناته سلّماً للوصول إلى تحقيق مآرب شخصية؛
وما فضيحة تهريب الإسمنت المصري عبر شركات يمتلكها رموز في السلطة إلى
(إسرائيل) من أجل بناء جدار الفصل العنصري بدلاً من استخدامه في إعادة
إعمار ما هدمه الاحتلال في الضفة والقطاع إلا إحدى تجليات الفساد
المستشري داخل أروقة السلطة.
انتفاضة الأقصى والتي انطلقت في (28/أيلول 2000) جاءت امتداداً طبيعياً
للانتفاضة الفلسطينية المغدورة (1987-1993) من حيث هدفها في مقاومة
ودحر الاحتلال، إلا أن ما تميزت به انتفاضة الأقصى هو أنها جاءت أيضاً
رداً على النهج السياسي للسلطة؛ ولكن الفصائل الوطنية والإسلامية قد
وجّهت المقاومة، ومنذ بداية الانتفاضة، باتجاه الاحتلال، ونأت بنفسها
عن الدخول في صراعات جانبية مع السلطة عبر فتح ملفاتها "القذرة" وركّزت
جلّ جهودها باتجاه تعزيز الوحدة الوطنية وتوجيه الضربات للاحتلال.
وأخذت السلطة بالتراجع والتقهقر بسبب انتقال القرار الفلسطيني الحقيقي
والفاعل إلى خانة فصائل المقاومة، كذلك بسبب الضربات المتتالية
والموجعة التي وجهها الاحتلال إلى السلطة في سياق حرب شاملة ضد
الفلسطينيين ابتداءً بحصار رئيسها ياسر عرفات، ومروراً بتدمير مقارها
الأمنية ومؤسساتها العامة، وانتهاءً بسحب "شرعيتها" والتشكيك بأهليتها
في المحافل الدولية كشريك مفترض في المفاوضات المزعومة
ومع
ارتفاع الأصوات الأمريكية وكذلك الأوروبية والداعية إلى "الإصلاح"
الفلسطيني وفق الرؤية الإسرائيلية (تفكيك بنى المقاومة، اعتقال
المطلوبين، إعطاء صلاحيات) انفتحت شهية البعض للقفز إلى كرسي السلطة،
وكان في مقدمة أولئك الذين ركبوا الموجة الصهيو ـ أمريكية هو العقيد
محمد دحلان أبرز المتشدّقين بضرورة إطلاق الحملة "الإصلاحية"، والقضاء
على رموز الفساد!!
وحري بنا أن ندرك أن تاريخ محمد دحلان والذي تحدثت عنه بإسهاب وسائل
الإعلام لا يؤهله البتة لحمل شعار الإصلاح باعتباره أحد أهم أعمدة
الفساد ويكفينا أن نذكر أن دحلان والذي ولد عام 1961 في أسرة فقيرة
ومعدمة تعيش في مخيم خانيونس يمتلك الآن فندق الواحة على شاطئ غزة وهو
المصنف كواحد من أفخم فنادق الخمس نجوم في الشرق الأوسط، ثم فضيحة ما
عرف بـ "معبر كارني" عام 1997 عندما تم الكشف أن 40 بالمئة من الضرائب
المحصلة من الاحتلال عن رسوم المعبر والمقدرة بمليون شيكل شهرياً (250
ألف دولارتقريباً) كانت تحول لحساب "سلطة المعابر الوطنية الفلسطينية"
والتي اتضح فيما بعد أنها حساب شخصي لدحلان، ناهيك عن تشكيل دحلان لـ
"مجموعة الموت" التابعة لجهاز الأمن الوقائي والذي كان يرأسه، تلك
المجموعة التي خصصت لضرب حركتي حماس والجهاد الإسلاميتين في النصف
الثاني من عقد التسعينيات في القرن الماضي تنفيذاً لأوامر إسرائيلية.
فعن
أي إصلاح يتحدث هذا الدحلان الذي تربطه علاقات حميمية مع الأمريكان
والإسرائيليين ؟ أهو الإصلاح السياسي؛ أم المالي، أم الإداري، أم
الأمني؟.
وانطلاقاً من أن "المكتوب يكشف العنوان فيه المحتوى" فلا شك أن
"الإصلاح" الذي يتمترس خلفه دحلان يعني سياسياً ضرب المقاومة وإنهاء
الانتفاضة، ومالياً إغلاق الجمعيات الخيرية والإنسانية وفرض حصار مالي
على فصائل المقاومة، وإدارياً تعيين كل ما هو موالٍ لنهجه ولخطه،
وأمنياً اعتقال المجاهدين والمقاتلين وزجهم في السجون "الفلسطينية".
أي،
وبصريح العبارة، "الإصلاح" الذي ينادي به الدحلان ما هو سوى مخطط
صهيوني لتحقيق ما لم تحققه الآلة العسكرية الصهيونية؛ إلا أن هذا لا
ينفي وجود شرفاء اندفعوا خلف شعارات "الإصلاح" الدحلانية، أملاً
بمحاصرة الفساد والمفسدين في سياق تحقيق مطلب شعبي ملح، ولكن ما لبث
معظم هؤلاء أن اكتشف أن السير وراء "الغراب" يفضي فقط إلى "الخراب".
فالإصلاح الحقيقي يحتاج أولاً إلى مرجعية يمثلها الشارع الفلسطيني
بقواه وفصائله الفاعلة والتي تختار الوقت والآلية المناسبين للشروع في
التنفيذ، ثانياً، أن تبتعد الأجنحة العسكرية كلياً عن عمليات الإصلاح
درءاً لاقتتال داخلي شكّل على الدوام أمنية صهيونية، ثالثاً، أن يحمل
لواء الإصلاح أناس لم يرتبط اسمهم بالفساد أو بالعمالة.
فالمطلوب فلسطينياً إصلاحٌ يدعم المقاومة ويمكّنها من الاستمرار حتى
تحقيق أهدافها في دحر الاحتلال، إصلاح يعزز الوحدة الوطنية ويحمي البيت
الفلسطيني من العابثين والفاسدين؛ ويطلق مشروعاً سياسياً واقتصادياً
واجتماعياً يؤمن للإنسان الفلسطيني حياة كريمة على أرضه ويكفل له كامل
حقوقه ويسعى لتحقيق طموحاته الوطنية والسياسية.
|