الحكومة الفلسطينية ومنطق الأولويات المعكوس
حسين عطوي
صحيفة الوطن القطرية 25/10/2003
بعد فترة من الاتصالات والمشاورات، ولدت حكومة فلسطينية مؤلفة من
ثمانية وزراء برئاسة أحمد قريع رئيس المجلس التشريعي السابق، وقد سميت
هذه الحكومة بحكومة الطوارئ، جميع أعضائها من لون واحد هو حركة فتح ما
عدا سلام فياض مستقل، وحتى أن تمثيل حركة فتح جاء فيها يبدو من التيار
النقيض لتيار كتائب شهداء الأقصى الذي يشكل الجناح العسكري للحركة.
وقد أثار إعلان الحكومة هذه عاصفة قوية من الانتقادات على الصعيد
الفلسطيني، وطرحت الكثير من التساؤلات حول الغايات التي شكلت من أجلها،
بداية لابد من الإشارة إلى أن هذه الحكومة لم تعلن برنامجاً واضحاً،
وهي أقسمت اليمين أمام رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، غير أن
رئيسها أحمد قريع أوضح في تصريح له قبيل أداء اليمين الأهداف الرئيسية
لهذه الحكومة التي لخصها بالآتي:
1
- التوصل إلى وقف لإطلاق النار مع "إسرائيل".
2
- اتخاذ إجراءات أمنية لوقف التدهور الأمني بعد عملية حيفا الاستشهادية
والقيام بالالتزامات المطلوبة منها، مشيراً إلى أن الأمور وصلت إلى
حالة لا يمكن التسامح معها، وكل ذلك جرى تقديمه على أنه يصب في خدمة
المصالح العليا للشعب الفلسطيني.
3
- أعلن قريع أيضاً أن العمليات هي المسؤولة عن دفع "إسرائيل" إلى بناء
الجدار الفاصل وتعزيز الاستيطان، هذه التوجهات المترافقة مع إعلان
الحكومة هذه، تطرح جملة من المغالطات وإشارات الاستفهام الكبيرة في آن،
وفي هذا السياق يمكن تسجيل ما يلي:
أولاً: من حيث المبدأ فإن إعلان الحكومة يثير الاستغراب والاستهجان إذا
لم نقل السخرية، لأن مثل هذه الإجراءات من المفترض أن تعلن في دولة
مستقلة وذات سيادة على أرضها، أما في الحالة الفلسطينية فليس هناك من
وجود لدولة من هذا النوع، والسلطة الفلسطينية القائمة إنما يخضع وجودها
كله لسلطة الاحتلال ودباباته الموجودة في المدن والبلدات والمخيمات
الفلسطينية، التي تستطيع في أي وقت تشاء الدخول إلى أي مكان تريده
لاعتقال أي فلسطيني، ولمحاصرة مقر رئيس السلطة ذاته، أو لتدمير منازل
الفلسطينيين.
ثانياً: إن الأولوية التي وضعتها هذه الحكومة لنفسها هي اتخاذ إجراءات
أمنية لوقف ما أسمته التدهور الأمني على الصعيد الفلسطيني والعمل على
ضبطه، أي أنها تعتبر أن الأولوية الأساسية لها معالجة مشكلات أمنية
فلسطينية، وهذا أمر خطير لأنه لا توجد أصلاً مشكلات أمنية فلسطينية،
لأن الشعب الفلسطيني في حالة انتفاضة ومقاومة للاحتلال، وهو يحمل
السلاح دفاعاً عن نفسه في مواجهة إرهاب المحتل وممارساته التعسفية
المختلفة، فإذا كانت هذه الحكومة تريد ضبط الانتفاضة والمقاومة ومنع
الشعب الفلسطيني من التصدي للاحتلال تحت شعار المصالح الوطنية العليا
للشعب الفلسطيني، فهذا معناه أنها تستجيب للضغوط الأميركية، بأن
المشكلة ليست في الاحتلال، إنما هي تكمن في عمليات المقاومة ضد
الاحتلال، وفي ذلك قلب للحقائق وتشويه للحقيقة ومحاولة لتجريد الشعب
الفلسطيني من حقه المشروع في مقاومة الاحتلال الذي تكفله له كل الشرائع
والمواثيق الدولية، وتبرير أفعال وممارسات المحتل الإرهابية التي يقوم
بها بدعوى أنها تأتي دفاعاً عن النفس.
ومثل هذا المنطق الخطير، يجب أن يكون مرفوضاً جملة وتفصيلاً باعتباره
يشكل أكبر خدمة للمحتل الذي تمكن بفضل هذا المنطق المقلوب وللأسف من
تضليل الرأي العام العالمي، فكيف يمكن إقناع العالم بأن الاحتلال هو
جوهر المشكلة وهو لب الصراع وأن الشعب الفلسطيني إنما يدافع عن نفسه في
مواجهة المحتل، في وقت يأتي رئيس حكومة فلسطينية ويقول إن هناك مشكلة
أمنية فلسطينية مطلوب ضبطها؟!
ثالثاً: إن ما تقدم معناه أن هذه الحكومة تعتزم ممارسة القمع للانتفاضة
وللمقاومة بحجة أنها تسعى إلى توحيد السلطة، ومنع تعدد السلطات حفاظاً
على ما تسميه المصالح العليا للشعب الفلسطيني، الأمر الذي يعني أنها
تسعى إلى تحقيق واحد من أمرين:
1
- وقف الانتفاضة والمقاومة للاحتلال، لتصبح حكومة أحمد قريع تتمتع
بالمصداقية المطلوبة أميركياً وإسرائيلياً.
2
- أو دفع الساحة الفلسطينية إلى حرب أهلية، لأن حركات المقاومة ومعها
الشعب الفلسطيني يرفضون وقف المقاومة أو نزع سلاحها، وهذا يعني بدوره
استنزاف الانتفاضة وتحقيق أهداف الاحتلال في تفجير الفتنة الداخلية
كوسيلة لتقويض الوحدة الوطنية الفلسطينية، وبالتالي النيل من الانتفاضة
والمقاومة بعدما عجز عن ذلك بواسطة قوته العسكرية وممارساته القمعية.
رابعاً: أما الحديث عن أن العمليات الفدائية هي التي أدت إلى توسع
الاستيطان ومصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء الجدار العازل وغيرها من
الممارسات الصهيونية، فإنه كلام خطير، لأنه يعطي أولاً المبرر للاحتلال
فيما يقوم به من أعمال قذرة وإجراءات عنصرية وإرهابية ومصادرة الأراضي
للشعب الفلسطيني، ولأنه ثانياً يقلب الحقائق رأساً على عقب، فالجدار
الفاصل جاء من قبل حكومة شارون من أجل تعزيز احتلال الأراضي الفلسطينية
ومحاولة لتفادي العمليات الفدائية التي جاءت أصلاً رداً طبيعياً على
ممارساته التعسفية، أما الاستيطان فإنه جاء مع الاحتلال لا بل هو أصلاً
من صلب هذا الاحتلال القائم على تهجير سكان الأرض الحقيقيين وإحلال
المستوطنين الصهاينة مكانهم.
وقد تم توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 تحت ذريعة محاولة إنقاذ ما تبقى من
الأرض الفلسطينية في الـ 67 قبل أن يجري تهويدها، غير أن جميع الوقائع
والمعطيات والأرقام تشير إلى أن الاستيطان انتعش وازدهر وتم جلب أكثر
من مليون مستوطن في ظلال اتفاق أوسلو المشوؤم، وأن الانتفاضة الثانية
جاءت نتيجة لفشل هذا الاتفاق في تحقيق أي من مطالب الشعب الفلسطيني
ومنها وقف الاستيطان ومصادرة الأراضي.
وبهذا المعنى يجب التحذير والتنبيه من خطورة تحريف الحقائق، وعدم
الانجرار إلى ما يريده أعداء الشعب الفلسطيني بتصوير مقاومته المشروعة
ضد الاحتلال بأنها إرهاب، وأنها هي من يقف عقبة أمام إيجاد حل عادل
للصراع وليس الاحتلال.
إن
السبب الأساسي لكل ما يحصل في فلسطين المحتلة هو الاحتلال، ولذلك يجب
أن يكون الهدف الأول والأولوية الأولى لأي سلطة أو حركة فلسطينية هي
مواجهة الاحتلال، وتوحيد الطاقات في مواجهته من أجل التسريع برحيله عن
الأرض المحتلة وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، وأي اتجاه يسير في عكس
ذلك، فإنه يضيع البوصلة ويحاول إرباك مسيرة نضال الشعب الفلسطيني خدمة
للاحتلال ومخططاته.
خامساً: انطلاقاً مما تقدم يمكن فهم لماذا كانت المعارضة لهذه الحكومة
واسعة، حيث لم يبق فصيل فلسطيني إلا وانتقد هذه الحكومة حتى أن تياراً
أساسياً في حركة فتح عبر عن عدم موافقته على تشكيلها وتوجهاتها التي
أعلنها أحمد قريع كما جاء على لسان حسين الشيخ أحد قيادات حركة فتح في
الضفة الغربية.
وهكذا يبدو أن هذه الحكومة بدأت بداية متعثرة حيث غاب وزير الداخلية
نصر يوسف عن أداء اليمين، فيما هي مطعون بشرعيتها من قبل معظم الفصائل
الفلسطينية.
وإذا كانت حكومة أبو مازن السابقة التي كانت أكثر تمثيلاً من هذه
الحكومة ومعها كل الدعم الأميركي والإسرائيلي وحتى الدولي لم تستطع أن
تعمر طويل، وسقطت سقوطاً مدوياً نتيجة تعارضها مع توجهات أغلبية
الفصائل الفلسطينية، فان حكومة احمد قريع لن تكون بأفضل حالاً فيما
يبدو، فهي عدا عن كونها لا تحظى بغطاء تمثيلي واسع، فإن توجهاتها التي
ذكرت آنفاً تتعارض مع تطلعات وأهداف ومنطلقات الشعب الفلسطيني وقواه
المقاومة على اختلاف تلاوينها.
|