الأسرى؛ بين صدأ القضبان وحرير
الأحلام!!
د. فايز صلاح أبو شمالة
لقد تفتحت شهية حضن الأم لضم الحبيب، ثم انفطرت، واختال
الأب في مجلسه، ثم انكمش، وأغمضت عينيها الزوجة فإذا بها تحملق في
الفراغ، وطار الأبناء كالعصافير، وهدّوا بلا أجنحة، وأبرق المجتمع
الفلسطيني بالتوقع، وانطفأ، وما زال الحديث يدور عن الإفراج عن الأسرى
المعتقلين في السجون الإسرائيلية، كشرط فلسطيني، وما زالت دولة إسرائيل
تشد عصب الحس الوجداني للفلسطينيين، ترش الملح على جرح الأحزان، وتعزف
أعذب الألحان الإرهابية النازية المتوحشة على أنات الأسرى.
لقد أثار الإعلام شهيتهم، وفتّح التأكيد الفلسطيني على
أنهم رأس الشرط لوقف إطلاق النار مسامات الروح لديهم، وما هم سوى بشر،
الأسرى في السجون تفاعلوا مع الخبر، وسمح خيالهم لقطرات الحب اجتياز
الجدران، طارت أرواحهم إلى القرية والمدينة والمخيم، ألقوا رؤوسهم على
وسائد الحرية، وفجأة!!!
فإذا بهم لدى مصلحة السجون الإسرائيلية مجرد أرقام، وسنوات
حكم ستُقْضى، بينما هم لدى أجهزة الأمن مؤشر نجاح وفشل، نجاح في إحباط
عمل معادٍ منظم، وفشل عن معرفة ما تخبؤه هذه العقول المتقدة، وهم لدى
المفاوض الإسرائيلي ورقة ضاغطة على المجتمع، والأسرى لدى السياسة
الإسرائيلية رسالة مفادها؛ كل مخلوق على وجه الأرض تسول له نفسه المس
بأمن إسرائيل، سيدفع الثمن مضاعفاً، ولن يغفر له بشر، ولن يرحمه قدر.
فهل ستكف الفراشات عن التحليق ويتخلى الأسرى عن أحلامهم
بالحرية؟ أم هل ستُخلي الأم الحياة قبل أن يتخلى لسانها عن ترديد حروف
حبيبها؟ أم هل ستتخلى السلطة الفلسطينية عن وعودها، وشرطها للإفراج
عنهم؟ أم هل ستتخلى إسرائيل عن طبعها، وتكسر الإناء الزجاجي الذي ترى
من خلفه البشر؟
معادلة صعبة، والله وحده يساعد في تخفيف عذاب السجناء،
وتهوين عظائم الأمور!!
إن الأسرى في السجون الإسرائيلية يعيشون هذه الأيام حالة
انعدام الوزن، فلا هم منتظمون في تأقلمهم مع الواقع، ولا هم متفرقون في
لملمة حاجياتهم البسيطة استعداداً للعودة، إنهم ضمن الحالة التي تثار
فيها الرغبة كي تَهْمد، ويرتفع فيها التوقع كي ينْهَد، ولا يقدر أحد أن
يزيح أصابع الأسرى من التشنج على قضبان الوقت، ولا يقدر أحد على تقدير
حجم القلق الذي تثاقل كسقف السجن، ومدى الأرق الذي تطاير كالرذاذ؟
لن أنسى ذالك اليوم 4/5/1994، في سجن غزة المركزي، كان
مكبر الصوت يتحشرج، استعداداً للنطق بأسماء الأسرى المنوي الإفراج عنهم
لمجرد التوقيع على اتفاق القاهرة، وتسود حالة من الوجوم بين غرف السجن،
وتسري القشعريرة في المفاصل، رفرفة تحط على القلب، رعشة تصيب العين،
ووجوه الأسرى تنطق بالخوف والفرح، بالاستعداد والخمول، وجوه الأسرى
يظهر عليها التقافز والانكماش، كل الأسرى تحلم بالحرية، كل الأسرى تشنف
آذانهم إلى ما سينطق به مكبر الصوت، ولكن مكبر الصوت يمارس لذة إحراق
القلوب المنتظرة، يتنحنح، فتدب الحياة في النفوس، ويصمت كالميتين ليغرق
السجن في ظلام رهيب، كل أسير يتوقع أن ينام الليلة بين أهله وبيته، وكل
أسير يتوقع أن ينقل إلى أحد السجون الرهيبة داخل إسرائيل، المفارقة
واضحة وكبيرة، والمقارنة بين المبيت في حضن البيت، وبين الموت بين فكي
الوحش غير عادلة، وكلا الاحتمالين قائمٌ، ولا يعلم بأسماء المفرج عنهم
غير إدارة السجن.
حاولت التجلّد وأنا أتناول طعام الغذاء في السجن وحيداً،
فلم يذق الأسرى طعامهم، حاولت أن أخفي انفعالاتي عن الأصغر سناً في ذلك
اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً، وطائر الترقب يلتقط ما لاح
من حركة، وما بدا من تلفت.
إن ذلك لهو الصبر الذي يندف ثلج الزمن على الروح! وإن تلك
اللحظات من الترقب لهي الكرباج الذي يلسع سَكِينة السجن، والأسرى لا
حول لهم ولا قوة على تقدير مصيرهم، أو التأثير في مستقبلهم، لقد تدخل
الأسرى في تقدير مستقبل المجتمع قبل إدخالهم إلى السجن، وهم يشاركون في
مقاومة المغتصبين للوطن، فاشتعلوا جمراً يتقد بالنار، وتقبلوا سنوات
الحكم مهما تأبدت، ولكنهم الآن رماد الجمر الذي تحركه حشرجة مكبر
الصوت، وشماتة السجان مهما تأدبت.
|