الخطأ الذي ينبغي ألا ترتكبه السلطة الفلسطينية.
..عبدالإله
بلقزيز
أكبر خطأ سياسي قد تقع فيه السلطة الفلسطينية، في عهدها الجديد، هو
العودة
الى
ما قبل مفاوضات كامب ديفيد الثانية في إدارة الشأن الأمني الداخلي:
نعني
بذلك العودة الى المقاربة الأمنية القائمة حينذاك على تصفية المقاومة
الوطنية وملاحقة مناضليها وأطرها تحت عنوان فرض الانضباط لسلطة أمنية
شرعية واحدة
هي
تلك التي حددها “اتفاق أوسلو” ورَسَمَ له وظيفتها الحصرية: مقاومة
“الإرهاب”!
والأدعى الى القلق، اليوم، ان هذه المقاربة التي قدمت في ما مضى أسوأ
صورة
عن
أجهزة “الأمن الوقائي” وبطشها تُطِل اليوم في صورتين: خَجِلَة تحت
عنوان
عام
ملتبس و”بريء” هو “تنظيم فوضى السلاح”، وسافرة مكشرة تحت عنوان “منع أي
سلاح غير شرعي”.لم تكن تجربة تنكيل السلطة وأجهزتها الأمنية بالمقاومة
الفلسطينية المسلحة بين العامين 1996 و1999 مبررة أخلاقياً ووطنياً،
وخاصة بالنظر
الى
وحشيتها وقسوتها.
لكنها كانت بمعنى ما مفهومة سياسياً أو من منطلقات براغماتية. كان في
وسع السلطة آنذاك ان تتجرع كأس انتهاكات جسيمة للحق
في
المقاومة لأن ذلك هو الثمن الفادح الذي كان عليها ان تدفعه مرغمة لا
مختارة كي تحصل على مقابل سياسي منصوص عليه: أكان ذلك في مرحلة مفاوضات
الوضع الانتقالي أم في مرحلة مفاوضات الوضع الدائم. والذين يعرفون جيدا
طريقة
رئيس السلطة الراحل ياسر عرفات في ادارة الشأن الفلسطيني الداخلي،
يعرفون أنه
لا
يقدم تنازلات مجانية لمجرد طمأنة عدوه؛ وأنه اذ يعطي فهو يفعل ذلك بعد
ان
يتأكد من ان ثمن ذلك مجز ومأمون. لكن أمر هذه المعادلة اختلف منذ
يوليو/تموز من
العام2000
بمناسبة
“مفاوضات كامب ديفيد الثانية”، ولاءات ياسر عرفات فيها،
فاندلاع انتفاضة الاقصى في 28 سبتمبر/ ايلول ،2000 وانهيار التسوية.طوت
متغيرات
صيف
العام 2000 تلك الصفحة السوداء من العلاقة بين السلطة والمقاومة: توقفت
الاولى عن معاقبة الثانية، وحول رجال الشرطة بنادقهم الى العدو،
ودافعوا عن أمن
شعبهم ومقاتليه، ووزعوا السلاح على رجال المقاومة وغطوا تسرب خلاياهم
الى خارج
مناطق الحكم الذاتي، وسقط مئات الشهداء من رجال الأمن، ودمرت مقارهم
ومواقعهم،
واعتقل منهم مَن اعتقل في حملة اعادة اجتياح مناطق الضفة (في ربيع
العام 2002)،
وانتقلت “فتح” من موقع “حزب السلطة” الى موقع “حزب المقاومة” لتقود
انتفاضة الاقصى، ثم نشأ لها جهاز قتالي ضارب (هو “كتائب شهداء
الأقصى”)، وسرعان
ما
استعاد أبوعمار صورته الأبهى والأجل، التي عرفها عنه الفلسطينيون
دائماً،
اي
صورة القائد الثوري والزعيم التاريخي الذي تتكسر على إرادته مطامع
العدو ومطالبه واملاءاته.. إلخ. ومن يراقب سلوك السلطة ورئيسها الراحل
منذ يوليو ،2000 وخاصة منذ فبراير/ شباط 2001 مع صعود شارون الى الحكم،
يلحظ
انها اسقطت الأمن (أمن الدولة الصهيونية) من جدول أعمالها وجذفت ضده
على الرغم
من
ضغوط قرارات “مؤتمر شرم الشيخ” (أكتوبر/ تشرين الأول 2000”، و”تقرير
ميتشل”،
و”
توصيات تينيت”، وإملاءات الجنرال انطوني زيني والوزير كولن باول..
إلخ.
أدركو ياسر عرفات ان أي مسوغ للمساس بالمقاومة، وبحق الشعب الفلسطيني
في ممارستها
ضد
الاحتلال أو دفاعا عن نفسه ضد العدوان، لم يعد مقبولاً ولا مشروعاً بعد
اناكتشف الفلسطينيون في كامب ديفيد حدود ما توافق عليه الدولة
العبرية من
حقوق لهم. وكان ذلك في اساس عزوفه التام عن ادانة عمليات المقاومة ضد
“اسرائيل”
ولو
داخل مناطق فلسطين 48. وحتى حينما كان يشتد الضغط عليه في هذا الباب،
كان
يكتفي بإدانة العنف “من الجانبين”. لقد استوعب الدرس: “اسرائيل” ليست
راغبة في
“سلام”
مع
الفلسطينيين؛ فلماذا اذاً يتبرع لها بحفظ أمنها ضد مقاومة خارجة من
رحم
معاناة شعبه؟
نعم، في الأعوام 1993 - 2000 كان معروضاً على السلطة الفلسطينية وقيادة
منظمة التحرير مشروع استقلال وطني ودولة. وجرت مفاوضات الوضع الانتقالي
لتنفيذ
اتفاق الحكم الذاتي الانتقالي الذي يفترض نهاية تفاوضية تبحث فيها
المسائل
الرئيسية:
اللاجئون والقدس والمستوطنات والولاية الجغرافية. واعتبر ذلك مبررا
كافيا
لكف
يد المقاومة على خلفية الاعتقاد بأن تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني
بات
ممكنا من خلال التفاوض والتسوية.
وبين الأعوام 2000-2004 سقط هذا الاعتقاد:
انقض المحافظون الجدد في أمريكا والمحافظون القدامى في “اسرائيل” على
ذلك
المسار السياسي الذي اطلقته “أوسلو” ومنه التفاوض لتعيد الموضوع
برمته الى
الجانب
الأمني حصراً. أما سياسياً، فتبين ان الوعد الذي أطلقه شارون منذ أزيد
من
عشر
سنوات بإنهاء “أوسلو” وتصحيح الخطأ الذي ارتكبه رابين بتوقيعها، هو
الذي
تحول الى سياسة رسمية في “اسرائيل” منذ صعود كتلة ليكود الى السلطة في
فبراير/
شباط من العام 2001. و بالتالي ما عاد ثمة من أمر يبرر لرئيس السلطة
ياسر
عرفات
التشدد في مواجهة المقاومة لأن بديلها
(التسوية)
دفنته دبابات شارون في نهاية مارس/ آذار 2002.ذكاء ياسر
عرفات، وحنكته السياسية، وخبرته التفاوضية مع العدو، وقراءته السليمة
للحظة
السياسية الجديدة، وحرصه الشديد على عدم التفريط في اي خيار، وحُسْنُ
اصغائه
لمطالب المجتمع الفلسطيني...، كل ذلك أقنعه بأن المرحلة مرحلة ممانعة
وصمود
وتنمية لعناصر القوة الذاتية في المجتمع الفلسطيني لا ينبغي تبديدها
بالركض وراء
أوهام سياسية بدأت ب “تقرير ميتشل” ولم تنته ب “خريطة الطريق”. كان
يعرف، بحس المجرّب، أن التسوية التي أخفقت مع رابين وكلينتون لا يمكنها
ان تنجح مع
شارون وبوش. فآثر الاعتصام بصموده في غرفتي مقرّه، وامتنع عن إدانة
المقاومة
او
المساس بها. وكان ذلك بمعنى من المعاني شرعنة منه لعمليات
المقاومة.ماذا تغير، إذن، حتى يستعيد الحديث عن انهاء حالة المقاومة
حرارته، وترتفع
الأصوات من هنا ومن هناك مطالبة فصائل الثورة بوقف عملياتها ضد
الاحتلال؟ هل
جَلا الاحتلال عن أراضي الضفة والقطاع والقدس، أم هل عادت قواته الى
حدود 28
سبتمبر/
ايلول ،2000 وتجددت المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها في منتصف
يوليو/
تموز2000
في
“كامب ديفيد”، أم هل باتت التسوية الموصلة الى الحقوق الوطنية
ممكنة وأفقاً مفتوحاً أمام شعب فلسطين حتى يدعى رجال المقاومة فيه الى
إغماد
الاسلحة وإتاحة الفرصة امام الخيار السياسي؟لم يتغير شيء في المشهد سوى
أن زعيم
الحركة الوطنية الفلسطينية رَحَل عن عالمنا، وأن بعضاً ممن توقف دورهم
منذ
ثلاثة وخمسين شهراً تراءى لهم رحيل الرجل مناسبة لاستعادة وهم ودور
وتهما
التطورات.
أما
ما دون ذلك، فليس من شيء يغري أهل فلسطين بالعودة عن ميراث زعيمهم
الراحل الى ما كان قد وضع حداً له هو نفسه منذ “كامب ديفيد”. لنقل ان
المعروض
على
الشعب الفلسطيني وسلطته مشروع غير قابل للتطبيق اسمه “خريطة الطريق”،
وآخر
ليس
يعنيه ولا هو طرف فيه اسمه الانسحاب أحادي الجانب من غزة. وهُمَا
سواء
في
النتائج. فالأول يطلب من الفلسطينيين قَلْع أظفارهم والاسنان بأيديهم
مقابل
ما
ليس يعرفون من مصير (“رؤية بوش” للدولتين التي أكلها “وعد بوش” المشؤوم
لشارون بعدم عودة اللاجئين الى ديارهم، وعدم عودة “اسرائيل” الى خط
الرابع من
يونيو/
حزيران 1967). والثاني يقع في صميم مشروع “اسرائيل” لتخفيف العبء
الأمني
عليها في غزة للتفرغ الكامل لتوسيع الاستيطان في الضفة، واستكمال تهويد
القدس
وبناء جدار الفصل العنصري. فمن أين يأتي النصر؟لنقل صراحة إن مسؤولية
أبي مازن
كبيرة في وضع حد مثل سلفه أبي عمار لهذه الأوهام التي قد يدفع هو
نفسه ثمنها غالياً. يستطيع أن يتفاوض مع المقاومة على هدنة كما فَعَل
حين كان
رئيساً للوزراء، وربما على المقاومة ان تساعده على ذلك وترفع عنه بعض
الضغط.
لكن
الهدنة شيء واعطاء الأمر للأجهزة الأمنية بمنع عمليات المقاومة شيء آخر.
والأمل في حُسْن وعي ذلك الفارق.
|