حزيران 2004
الخباز والمدير
العام
بقلم: د.عبد الرحيم كتانة*
كعادتي اتوجه معظم الايام الى فرن ابي احمد المهدي في مدينة نابلس
لابتياع الخبز الطيب الطازج والمميز. ابو احمد توقف عن العمل المباشر
منذ مدة بعدما اشتد عليه المرض واخذت منه السنون زهرة شبابه, فبدأ يشرف
على عمل اولاده الرائعين: احدهم يقطع العجين والثاني يصنع المناقيش
والثالث يقف في مواجهة بيت النار يرسل ويستقبل الرغيف بعد نضوجه
ويلقيه,رمبتسما, امام الزبائن بحركات جميلة. في فصل الصيف الكل يتصبب
عرقا, العمال والزبائن. وقفت اراقب هذا المسرح وافكر في انساننا
الفلسطيني المكافح الصابر العاض على جرحه، الكاظم لغيظه، ويعمل ويناضل
من اجل البقاء في وطنه وعلى قيد الحياة.
ذات
مرة احببت تبادل اطراف الحديث مع ابي احمد, فقلت له مازحا: لماذا تجهد
نفسك انت واولادك في هذا العمل الشاق مع العلم انك مؤهل للحصول على
وظيفة محترمة في السلطة الفلسطينية؟
انتفض ابو احمد, ظانا انني أهزأ منه (حاشا لله) وقال: هل تريد ان اعيش
عالة على غيري واطعم اولادي مالا حراما؟
-
ولكن هذه اموال الشعب الفلسطيني يا ابا احمد، وتأتينا من كل حدب وصوب
لدعم صمود شعبنا.
بدأ
ابو احمد (وقد فوجئت من سعة اطلاعه) يجادلني بأن هذه الاموال ترسلها
الدول الامبريالية المتحالفة مع الصهيونية والرجعية العربية هي لافساد
شعبنا.
-
ولكن هذه التعابير لم تعد صالحة للاستعمال يا صديقي, اجبته واستطردت:
ولم نعد نسمع مثل هذه الكلمات منذ ما قبل اوسلو, فالامبريالية اصبحت
وسيطا وحكما بيننا وبين اعدائنا والكونغرس يرسل لنا المال ويدرب رجال
مخابراتنا وقادتنا يعانقون اولبرايت ومارتن اندك ودينس روس. وحتى
اعدائنا تحولوا الى شركائنا واصبحنا نشاركهم الافراح والاتراح ونذهب
الى بيوت العزاء التي لا يقيمونها الا خصيصا عندما نذهب لتعزيتهم, اما
عن الرجعية فهؤلاء اهلنا يا ابا احمد, حتى اننا لا نستطيع تناول او
تحضير وجبة مقلوبة الا بعد زيارة القاهرة. لهذا يا صديقي اقول لك انك
متخلف وضد الحداثة والتقدم والواقعية.
-
على مهلك يا دكتور: هل تريد ان تثبت لي انك وانت المتعلم تفهم
بالواقعية والتطور, اما انا فمتخلف. لا والله ما انت بواقعي ولكنك
منافق!!!!
-
انا منافق, يا ابا احمد؟ ما هذا الكلام؟
يدخل في هذه اللحظة شاب وسيم يتناول الخبز والمعجنات ويسرع الى
المرسيدس التي توقفت لتوها امام المخبز. أسأل: من هذا يا ابا احمد؟
-
انه مرافق العقيد فلان, وهذه احدى سياراته التي يستعملها للتسوق ...
-
وهل يملك سيارات اخرى ومن نفس النوع؟ سألته.
-
نعم. وهل تعرف, يا دكتور ان عقداؤنا وعمدائنا ووزراؤنا ووكلاؤهم
ومساعدي وكلائهم يملكون من المرسيدس والـ ب.م. دبليو اكثر مما تملك
الحكومة الالمانية وجاراتها من دول الاتحاد الاروبي المشكل حديثا؟؟
-
انك تبالغ قليلا يا ابا احمد, اجبته (لاعرف, انا في قرارة نفسي انه لم
يقل الا جزا من الحقيقة, ولكنني كنت اتعمد استفزازه ليخرج كل ما في
قلبه)
ولكن ابو احمد فهم اشارتي واراد ان ينهي الحديث قائلا: وماذا يستطيع
شخص امي مثلي ان يعمل في السلطة الفلسطينية؟
فقلت له: انت غلطان يا ابا احمد, فالامي هو المطلوب يا صديقي (بالاضافة
الى بعض المواصفات الاخرى – طبعا)
-
هات ما عندك, ماذا يمكنني ان اعمل في السلطة؟
شعرت ان ابا احمد يريد ان يلاحق العيار لباب الدار (كما يقول مثلنا
الشعبي).
فعدلت من وقفتي وقلت:
اسمع يا ابا احمد: اولا- ان تصبح مديرا عاما في احدى الوزارات او
المؤسسات التابعة للسلطة, فهذه اسهل وظيفة ولا تحتاج الى اي خبرة او
شهادات بل يفضل ان يكون المدير العام اميا مثلك. اما الامتيازات فهي
كثيرة: راتب يصل الى 1500 دولار زائد بدل مهمات وسفريات وخط اتصال
مجاني مع ام احمد، وربما سيارة (اذا كان لك واسطة) ...الخ
-
وهل سيكون لي سائق ومرافقين؟ سأل ابو احمد
-
ربما، اجبته
_
اريد غيرها, قال ابو احمد
-
حسنا, اليوم موسم الوكيل المساعد وهي بالعشرات وبعضهم يقول بالمئات,
وتختلف عن الاولى بميزات بسيطة: الراتب افضل والمهمات اكثر وتصبح مرشح
لوكيل وزارة (اذا حالفك الحظ وطار الوكيل لسبب من الاسباب).
-
اعطيني غيرها؟ قال ابو احمد.
-
وكيل وزارة, اجبته, ولكن هذه الوظيفة تحتاج الى مقومات غير موجودة عندك
يا ابو احمد.
وما
هي هذه المقومات؟ هل هي شهادات جامعية وابحاث علمية؟
-
طبعا لا, اجبته, ولكن يشترط ان تكون عائلتك او احدهم (على الاقل) كبير
وذو تأثير على صناع القرار وان تكون نظمت مظاهرة (على الاقل) في مكان
عملك تأييدا للقائد العام، وان لا تتلفظ بالفاظ نابية عن الامبريالية
والصهيونية وما شابه ذلك وتستطيع اختلاس المال العام على المكشوف ودون
ان يرف لك جفن, اما بالنسبة للمهنية والاحتراف فيفضل ا ن تكونا سكر
خفيف.
-
اعطيني غيرها, قال ابو احمد.
-
هل تريد ان تصبح وزيرا؟ سألته.
-
نعم, اجاب ولكن هل تنطبق علي مواصفات الوزير؟
-
لا اعرف, ولكن عليك ان تكون منافقا وبريئا من دم الشعب الفلسطيني
وحقوقه براءة الذئب من دم يعقوب وتمتدح الراحل السادات وتشتم الراحل
الاسد وتدعي ان ايران وحزب الله عملاء لامريكيا واسرائيل وتملك خبرة في
الاستيراد الغير مشروع وتتقن العبرية. اما فوائدها وميزاتها فلا تعد
ولا تحصى: معاش غير محدد , مصاريف ومهمات غير محددة, مرافق وحارس او
اكثر (حسب الطلب) سيارات بانواعها مع اضافات للحفاظ على امنك الشخصي,
اعفاء من الضرائب والجمارك (واعفاء) من الوصول الى المخيمات المدمرة او
اماكن الصدام مع الجيش في القرى التي يشيد فيها الجدارالعازل. ثم انك
تستطيع ان تؤمن عملا لائقا لاولادك واصدقائهم واقاربك وجيرانهم ولكافة
افراد العشيرة ... الخ. باختصار فان ما ستنفقه في شهر واحد يكفي لاعادة
بناء مخيم جنين او مخيم رفح.
-
هل استطيع ان اصبح عقيدا او عميدا او لواء؟ سألني ابو احمد، وكأنه لا
يستطيع تلبية متطلبات الوزير او احد نوابه.
-
هذه مراتب عسكرية يا صديقي تحتاج الى ان تلتحق بالجيش وتدخل الدورات
العسكرية وتتدرج بالمراتب وتخوض المعارك الخاسرة , واذا خضت معركة
فاصلة وهربت منها حصلت على رتبة لواء لا محالة.
-
لا اريد ان اكون الا خبازا, قال ابو احمد, فهذه مهنة شريفة اعتاش منها
ابي وجدي بشرف, واريد انا واولادي ان نكون اوفياء لهم وعلى دربهم
سائرون.
ودعته قائلا لنفسي: لا زال في شعبي نفر لا يرضون عن المبادىء بديلا.
* طبيب يقيم في مدينة نابلس واحد الموقعين على بيان العشرين.
|