عرفات : هو المشكلة و الحل  ؟

كتب/ د.غازي حمد/  مع الخروج  الاضطراري للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من سجن المقاطعة لاول مرة منذ ثلاث سنوات فانه يترك وراءه جبلا من الاسئلة التي لا جواب لها و جبلا من الاحتمالات المتشعبة و المعقدة , ليس على مستوى الفلسطينيين فحسب و لكن ايضا على المستوى الاسرائيلي و الاقليمي و الدولي . فهذا الزعيم الذي  شغل العالم  و , الشرق الاوسط بالذات , لاكثر من اربعين عاما , قيل عنه انه " صعب العيش معه ..و صعب العيش دونه "  شكل في محطات مهمة من التاريخ  جدليات متباينة بين الثورة و السلام .. بين تحالفات الشرق و ميول الغرب , بين رايات انظمة عربية قومية او يسارية او اسلامية .. بين "ديمقراطية غابة البنادق " و دكتاتورية الحكم . عرفات حاول ان يجمع كثيرا من التناقضات بين يديه , فجبل خليطا عجيبا من الافكار و الرجال على حد سواء  ,و يبدو انه كان يبحث عن شيء في ذاته و قضيته ,كثيرون قالوا عنه " حتى اقرب الناس اليه لا يمكنهم معرفة ما يريد  و بماذا يفكر في الغد " , بدا في كثير من الاحيان لغزا غامضا ,و في احايين اخرى  بسيطا الى ابعد الحدود .احب ان يتمتع بمظاهر الرئاسة في ابهى صورها و ان يفرش له البساط الاحمر و ينتظره البروتوكول العسكري كلما هبطت طائرته في رام الله , غير انه كان يلبس زيا بسيطا و ينام في مكتبه و يعمل لاكثر من 15 ساعة في اليوم,  و لم يستطع احد ممن حوله  ان يجاريه في نشاطه و فورته .كان كثير ممكن حوله يحبونه ,و البعض الاخر كان يخشى سطوته ,و بعض ثالث تعامل معه بحذر و ريبة , فكنت تسمع قصصا شتى , تاره عن حنوه و تارة  عن قسوته و تارة ثالثة عن  سكوته المريب .يقال انه يحفظ سجلات من حوله بشكل قوي و يتمتع ذاكرة خرافية شكلت في كثير من الاحيان " سيفا مسلطا " على رقاب من عارضوه او وقفوا في طريقه .

عرفات شكل في محطاته   " بؤرة تجميع " لمن سعوا الى حل ازمة المنطقة من خلال سلام مع اسرائيل لكنه في نفس الوقت احدث شرخا ليس من الهين جبره في الوسط الفلسطيني و العربي كذلك  . دائما كان هذا الرجل الكاريزماتي ذا جدلية عجيبة : مثار اتفاق و خلاف ,مثار اجماع و انشقاق, مثار صلابة سياسية و اتهام بالتنازل . .مشهود له بصبر طويل و قدرة على الاحتواء و تحمل الاذى و مشهود له باستقطاب الرجال بقدرة غريبة  ,لكن خصومه يأخذون عليه الكثير الكثير من دكتاتوريته و اصطفائه لمن يعطونه الولاء و احتكاره الصلاحيات و استئثاره بالقرارات , فضلا عن تهاونه في كثير من قضايا الفساد التي ضربت اطناب السلطة , و يتهمونه بانه الذي يمنحها المظلة و الحماية . انهم يقولون بان عرفات لم ينجح في ادارة الامور بشكل جيد منذ ان تولى مقاليد السلطة في العام 94 .

**متفرد ام دكتاتوري

عرفات منذ ان ظهر على الساحة الفلسطينية كناشط و مؤسس لحركة فتح كان معروفا بذكائه الحاد و حركته الدائبة و قدرته على نسج شبكات اجتماعية حوله , غير انه في ذلك كله كان يشعر دائما بانه " رجل متفرد " و لا يوجد بديل اخر له ,حتى على مستوى سلوكه الشخصي و تجاه اقرب الناس اليه ,و حتى في حصاره في المقاطعة و محاولة الاطراف الدولية تجاهله باعتباره " غير ذي صلة " فان عرفات كان يردد بانه من " عاصر قادة العالم العظماء امثال تيتو و ماوتسي تونغ و جمال عبد الناصر و نهرو و انه لا يقل عنهم كاريزماتية و قوة و نفوذا " .  قليلون هم الذين وقفوا في طريقه و عارضوا نهجه و اغلبهم اثر اما ان يترك او يصمت او يقبل بالامر الواقع ,كان الاعتراض على الرئيس من الخطوط الحمراء التي لا ينجح كثيرون في تخطيها .عرفات احب ان يوصف بانه " الرمز " الذي طالما التف الفلسطينيون حوله طوال اكثر من اربعين عاما ,و قد نجح عرفات في ان يثبت نفسه على انه " الرجل الوحيد " الذي يمكنه قيادة سفينة منظمة التحرير الفلسطينية و سفينة فتح  عبر محيطات متلاطمة  و بحار عاصفة و تقلبات سياسية اشبه ما تكون بالزلازل و قد مر في محطات طويلة و مريرة . ذهب في تحالفه مع الاتحاد السوفيتي الى ابعد حد لدرجه تأييده لغزو افغانستان , ثم ادرك ان " الاوراق " بيد امريكا فاصبح ضيفا دائما للبيت الابيض ,و غامر بتأييد صدام في حربه ضد الكويت .و بين هذه و هذه فتح علاقات واسعة مع دول و حكومات و احزاب و حركات تحرر ,و كان لا يكل من التنقل من مطار الى اخر ,و حملته الطائرة اكثر مما اقلته  الارض . خاض صراعات دموية في  عمان و دمشق و بيروت قبل ان يسقر في تونس بعد اخراجه من بيروت ,  و اخيرا حط  في فلسطين حيث بدأت مرحلة جديدة عاشها عرفات بكل تعقيداتها و كانت من اشد السنوات عليه ,  و قد تناوشته كثير من الجراح و سهام الخصومة و العداوة  .يقال ان سياسته المرتبكة جرت عليه كثيرا من الكوارث و الخسائر الجسيمة غير ان مؤيديه يقولون بانه نجح في تثبيت القضية الفلسطينية في سلم اولويات العالم بعد ان كانت كما مهمشا .

**تحديات الداخل

بلا شك ان لعرفات مؤيدين كثر , و خصوم كثر ايضا ,و بالذات على الساحة الفلسطينية التي خبرته و " عجنته " جيدا فعرفت حلوه و مره ,و نقاط قوته و ضعفه , لكن عرفات كان يثبت المرة تلو المرة انه "رجل قوي " لا يستطيع احد ان يتجاوزه بسهولة: لا ابو مازن بمنطقه السياسي و طروحاته البرجماتية المقبولة دوليا , و لا دحلان باندفاعه الشبابي و تمنطقه بالحزام الفتحاوي,و لا حتى " المجلس التشريعي " بعناده و قراراته التي شكلت امامه في كثير من الاحيان تحديا كبيرا ..حتى البيت الابيض و حكومة اسرائيل اليمينية حاولت ان تسقطه عن صهوة جواده بشتى السبل و الضغوط فما نجحت ..هو في نهاية المطاف نجح في احتواء من حوله و " تطنيش " اعدائه البعيدين  . و هي مهنة اتقنها عرفات طوال حياته : نجح في صناعة الخصوم كما نجح في القضاء عليهم كما نجح في استقطاب مجموعة كبيرة حوله  تدين له بالولاء بعد ان اغدق عليها الكثير من النعم و النفوذ لكنه خلق لنفسه نقمة غير عادية ممن شعروا بالاقصاء و الحرمان , ذلك بعد ان صنع من الوزارة وزارتين و من المدير مديرين و دق اسفين داخل التشريعي و انقسمت فتح حوله بالتأييد و المعارضة و انقلب عليه رفاقه في مسيرة العمل النضالي خصوصا احزاب اليسار   . لكن لا يفهم من هذا ان عرفات هو " سوبرمان " نجح في صنع الخوارق و المعجزات , فقد اثبتت المسيرة الطويلة في الاراضي الفلسطينية و منذ توليه الرئاسة  ان لعرفات سجل اخفاقات كبير خصوصا في قدرته على تنظيم الحياة الفلسطينية ضمن اطار يسوده النظام و القانون و الحياة الديمقراطية ,و من ثم برز لعرفات خصوم من "تحت جلده ",من حركة فتح, التي شعرت في الاونة الاخيرة بان السلطة الفلسطينية تتهاوى و تتراجع و ان حركة حماس بدأت تأخذ مكانها و تتبوأ الصدارة , فحملت عرفات و " الزمرة حوله " مسؤولية الفشل و بدأت الانتقادات تنسج خيوطها , و بدأت مصطلحات " الفساد " و الرشوة و المحسوبية و الفلتان الامني تطغي على السطح و تشير باصابع الاتهام الى السلطة و رموزها و بدأت دعوات الاصلاح,  و " التمرد " في بعض الاحيان,  على السلطة من فصائل مسلحة لفتح : اختطفوا مدير شرطته و احتلوا عددا من المحافظات و اطلقوا النار على رجاله (و هم في كل ذلك يرفعون صوره و يهتفون باسمه !!)  ,  لكن عرفات كان يقابل ذلك بلا مبالاة كبيرة و يعالج الامور و كأنها "شجار عائلي بسيط "... و في كل مرة يلتف على كل هذه " الاخطبوطيات"  بطريقة ملتوية فيها نوع من استرضاء الجميع .

**القبضة الحديدية

حكومة شارون باتت على قناعة انه " يتلاعب " بها و يهدر و قتها ,  و البيت الابيض تلبس بوجهة نظرها بان عرفات ليس شريكا و انه لا بد من تحطيمه ,و تقزيم  صلاحياته و تقليص اظافره,  فادخلوه " متاهة الاصلاح " من عنق السياسة الضيقة,  و من ثم اضطر بعد تضييق الخناق عليه الى الاستجابة الخجولة: عين رئيس وزراء ووزير داخلية و اجرى عمليات استبدال للحكومة اكثر من مرة ,ووزع القبلات و ثار غضبه,  لكن في نهاية المطاف كان عرفات يريد ان يثبت للجميع بلا استثناء انه " الجوكر " الذي لا يمكن تجاوزه ,فطرد رئيس الوزراء ابو مازن ووضع خلفه في جيبه ,و تحول وزير الداخلية الى مستشار له و تحول مجلس الامني القومي الى صهوة له . حتى بقاؤه في العزل لاكثر من ثلاث سنوات متوالية لم يمنع مؤيدوه و خصومه في حركة فتح و منظمة التحرير من الاحتكام اليه او السعي باتجاه الحصول على الامتيازات او الوظائف . لقد نجح عرفات في الامساك باكثر ركنين مهمين في السلطة الفلسطينية  : السياسة و المال ,و احتكرهما بشكل مطلق ,و الصحيح ان الاخرين سلموا له بهذه " العلامة المسجلة " ,و رغم ان كلا من ابو مازن و فياض و دحلان و " مناكفي " فتح حاولوا زحزحته عن هذا الاحتكار الا انهم لم ينجحوا الا لماما .

في اروقة السلطة الفلسطينية و بعض قيادات فتح يقولون انه في مضمار  السياسة كان صلبا و رافضا لاية تسويات غير مقتنع بها,و هذا جر عليه غضب واشنطن و تل ابيب و دفعهما لشن حرب شرسة ضده , لكن خصومه يقولون بان عرفات ذهب بعيدا حين وافق على كثير من الاتفاقيات الهزيلة  التي شكلت في نظرهم ضربة قاصمة للقضية الفلسطينية و اغرت الحكومة الاسرائيلية بفرض الكثير من الشروط المعقدة , لدرجة ان فتح نفسها اعترفت في كثير من الاحيان ان المسار السياسي قد فشل و اعلن افلاسه و ان هناك حاجة الى استراتيجية جديدة , لكن عرفات ظل متمسكا ب" سلام الشجعان " و قال انه على استعداد لاقامة سلام مع شارون الذي قصف مقره في غزة و دمر المقاطعة في رام الله  ثم فرض عليه حصارا و سجنا لاجل غير مسمى .يقولون عن عرفات انه ارتكب اخطاءً كثيرة بما في ذلك عجزه عن الانتقال من رجل الثورة الى رجل الدولة والتخلص من عقلية جمهورية الفاكهاني في بيروت وتوَّج هذه الاخطاء بادارة سلطة جلبت على نفسها الكثير من الانتقادات و السخط , فضلا عن فشل المسار السياسي برمته ,و الذي يتحمل عرفات جزءا منه – و ليس كله.

إنَّ حديث عن اخطاء ياسر عرفات يطول ، ولكن ما لايمكن فهمه هو ذلك الاصرار الامريكي في التركيز عليه وكأنه لب المشكلة ولا مشكلة أخرى في الشرق الاوسط غيره.. لكن  من الظلم تحميل «ابو عمار» المسؤولية الكاملة عن تدهور الأوضاع وتوقف العملية السلمية، حتى أنه يمكن القول انه وللمرة الاولى منذ العام 2001م، لم يعد هناك شيء اسمه مفاوضات فلسطينية -اسرائيلية. لذلك فان عرفات كان وجوده مشكلة و غيابه مشكلة كذلك !!!!وجوده خلق ازمة كبيرة في اسرائيل و داخل حركة فتح و داخل الفصائل الفلسطينية ...و غيابه سيحدث ازمة موازية لكن بشكل مختلف . ستفقد السلطة الفلسطينية مرجعيتها السياسية و المالية و ايضا صورتها التاريخية بوجود ابو عمار ,و فتح ستفقد " رمزا " طالما حاول ابقاء كل خيوط خلافاتها بيد و جمع زعماءها ذوي التوجهات المتباينة باليد الاخرى , لكن ظلت مشكلة عرفات في استيعاب من هم خارج "مملكته ", و اقصد بذلك حركة حماس و الجهاد الاسلامي ,و الذين رأوا في عرفات صورة الرجل الذي اعاد القضية الفلسطينية الى الوراء عشرات السنين و انه قدم تنازلات غير معقولة للاسرائليين.حماس ظلت خصما عنيدا لسياسات عرفات و توجهاته الداخلية لكن يبدو انه اثر في السنوات الاخيرة عدم التعرض لها حماس , ربما لحسابات سياسية هو ادرى بها من غيره و قد لا يطلع الكثيرين عليها .حماس  سارعت لتعيد الكرة على طرحها بضرورة تشكيل قيادة موحدة تجمع كل الوان الطيف الفلسطيني ,و هي تدرك جيدا انه قبل تشكيل القيادة فلا بد من مرجعية سياسية و برنامج مشترك و هم لما يتأتى بعد. على كل سيظل الفلسطينيون في حالة "حيص و بيص" في كلا الحالتين : سواء بقى الرئيس على قيد الحياة او ذهب الى العالم الاخر ..هم بحاجة الى قيادة جديدة و رؤية جديدة و مسار جديد ...غياب عرفات قد يشق الباب قليلا امام هذا الاحتمال , لكن ذلك مشروط بتوافق الجبهة الداخلية التي تصطرع هي الاخرى بخلافات كبيرة حتى بعد غياب عرفات

 

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع