إسرائيل لا تستطيع الاستغناء عن عرفات

عمان- ياسر الزعاترة

لكل حرب نجومها، ولكل معركة وجهها الأبرز، وإذا شئنا أن نفتش في سجل انتفاضة الأقصى عن النجوم، فسيتصدر الشهيد محمد الدرة القائمة. أما من الأحياء فلا شك أن مروان البرغوثي أمين سر اللجنة الحركية العليا في حركة (فتح) في الضفة الغربية (سابقاً)، كان هو النجم. طوال أيام الانتفاضة لم يغب مروان البرغوثي عن شاشات الفضائيات، وما كنت تتابع جولة إخبارية إلا وتجده أمامك، متحدثاً من مكاتب الفضائيات على الهواء مباشرة من رام الله، أو تسمعه وصورته على الشاشة متحدثاً عبر الهاتف.


"
معاريف" الإسرائيلية اعترفت بهذه الحقيقة، حيث ذهبت إلى أن الانتفاضة الحالية قد حولت مروان البرغوثي إلى "الاسم الأكثر سخونة على الأرض". وتتبعت الصحيفة كيف بنى الرجل ابن الأربعين عاماً سمعته داخل حركة (فتح) وفي الميدان الشعبي.


تنقل معاريف عن أحد نشطاء (فتح) قوله إن "سر مروان أنه جاء من الشعب وينتمي إلى الشعب"، وأنه لو أراد "أن يكون في القيادة يلبس البدلات ويسافر في المرسيدس إلى جانب سائق لما كان ذلك صعباً عليه، ولكنه اختار الارتباط بالميدان".


من هو البرغوثي؟ البرغوثي كان رئيساً لمجلس طلبة جامعة بيرزيت، ومن خلال منصبه ذاك تصدر العمل الشبابي في (فتح)، واعتقل أكثر من مرة، قبل أن يتولى قيادة مهمة خلال الانتفاضة أدت إلى إبعاده، حيث جلس في الأردن يتابع شؤون الحركة في الضفة الغربية. وكان من الدفعة الأولى التي عادت إلى الأراضي المحتلة بعد اتفاق "أوسلو"، حيث انتخب مباشرة أمين سر اللجنة الحركية العليا لفتح في المناطق، وهو المنصب الذي فقده مؤخراً لحساب »حسين الشيخ«، بسبب دعم عرفات لهذا الأخير. مع أن سلطاته (أي البرغوثي) ما زالت على حالها.


الحلقة المتشددة في التنظيم


"
معاريف"، ومحللون إسرائيليون آخرون ذهبوا إلى أن (البرغوثي) قد غدا قوة متمردة على الرئيس الفلسطيني وأنه يقود المواجهات.


بدأت هذه التحليلات بمقال كتبه الصحفي البريطاني "باترك سيل" في صحيفة الحياة اللندنية (8/10)، وذهب فيه إلى أن "قيادة متشددة منبثقة من "التنظيم العسكري" وهو مليشيا حركة فتح تبرز في فلسطين في تحدٍ مباشر لسلطة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات". هذه القصة ليست مجرد معلومة للتسلية، فلو صحت لذهب التحليل في اتجاه آخر تماماً فيما يتصل بالانتفاضة ومستقبلها، وأية انتفاضة أخرى، وبالضرورة بالنسبة لمستقبل تطبيق اتفاق "أوسلو" على الأرض.


حسب "سيل"، أن الزعيم الفلسطيني فقد "صدقيته لدى شعبه"، وأن "قيادة التنظيم - إذا كان هذا ما سيتمخض عنه الوضع - تحبذ "التحرك المباشر" ضد الإسرائيليين بدلاً من تكتيكات عرفات التفاوضية".


من المرجح أن "باتريك سيل" قد حصل على المعلومات التي وضعها في مقالته من مصادر داخل حركة (فتح) يهمها أن تسربها إلى الدوائر الخارجية مع أنه يشير إلى أن مصدره هو "تقارير غير مؤكدة يجري تداولها في لندن وباريس". وبالطبع فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي حقيقة هذا التحدي الذي يواجهه عرفات من داخل حركة (فتح)، سواء من "البرغوثي" -حسب معاريف- أم من "حلقة التنظيم المتشددة" -حسب باتريك سيل-؟


ثم كيف يمكن ربط هذه المسألة مع ذلك الجدل الذي أخذ يحتدم في الأوساط السياسية الإسرائيلية حول عرفات وصلاحيته لدور "الشريك" مع "باراك"، والذي وصل حد الحديث عن "التخلص" منه. أو انتظار بديله الذي يمكن التعامل معه؟


حقيقة التمرد في (فتح)

ليس من السهل القول إن تمرداً على قيادة الرئيس الفلسطيني قد بات على الأبواب، خصوصاً عندما يكون ذلك التمرد قادماً من المساحات الأكثر "تشدداً" في التنظيم، أو من شخص لا يثق الإسرائيليون بقدرته على ملء كرسي الرئاسة الفلسطينية، وبالتالي التوقيع على الاتفاق النهائي ومنحه ما يكفي من الشرعية السياسية والشعبية.


التمرد على عرفات لم يفلح في كل المراحل، حتى عندما كان "المتمردون" يحظون بدعم "لوجستي" عارم من أطراف فاعلة في اللعبة مثل سوريا، فهل يمكن أن يفلح بعد أن غدا الرجل رئيساً وله طاقمه وأمواله وحساباته ووزراؤه؟


بالنسبة لمروان البرغوثي فإن من اليسير القول إنه ورغم ما يتمتع به من علاقة خاصة بقائد الأمن الوقائي والرجل القوي في الضفة الغربية "جبريل الرجوب" إلا أن الحديث عن تهديده لموقع عرفات يظل أمراً مبالغاً فيه إلى حد كبير، وإن كان تخلص الرئيس منه في انتخابات (فتح) واستبداله بحسين الشيخ يؤشر على قلق منه، فإن الرد هو أن من عادة عرفات أن يغير ويبدل في الوجوه لاعتبارات مختلفة ليس بالضرورة أن يكون على رأسها الخوف من تهديد المكانة.


ببساطة، ليس هناك داخل (فتح) من يملك مؤهلات خلافة عرفات بمفرده، ولا بد أن يكون خليفته موضع توافق داخل التنظيم لاعتبارات مختلفة، منها ما هو داخلي ومنها ما له علاقة بالعناصر الفاعلة في القرار: مصر، إسرائيل، أمريكا. ومن هنا فإن البرغوثي ليس هو المؤهل للخلافة، كما أنه ليس المؤهل للتمرد.


ثمة احتمال وحيد يمكن أن يدفع البرغوثي إلى المواجهة يتمثل في أن يحدث توافق داخل المجموعة المهمة في التنظيم بزعامة صخر حبش وهاني الحسن وآخرين على الدفع بالبرغوثي إلى الواجهة، والأهم، الانقلاب على زعامة عرفات، وهذا الاحتمال يبدو بالغ الضعف لا سيما وأن من تسمى المجموعة المتشددة ترى في عرفات سنداً لها وليس ضداً، وهو ما سمعه كاتب هذه السطور من هاني الحسن شخصياً، حيث كان يتحدث دائماً عن ما يسميه التيار الإسرائيلي في صفوف فتح والسلطة في مقابل التيار العربي الذي يعتبر نفسه من أهم رموزه.


ما يجب أن يشار إليه بالمقابل هو أنه في مواجهة ما يقال إنها حلقة متشددة في التنظيم، هناك حلقات أخرى كشفت الصحف الإسرائيلية (المعلومات أمنية بالتأكيد) عن أن "ثمة عدد غير قليل من كبار القيادة الفلسطينية وقوات الأمن التابعة لعرفات غير راضية عن الوضع ونصحوه بوقف أعمال العنف والقتل واستئناف الحوار السياسي". وقد نقل هذه المعلومات ووصفها بأنها واضحة "رون بن يشاي"، المراسل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت".
الإسرائيليون وعرفات: نأتي هنا إلى الظاهرة الجديدة التي أفرزتها انتفاضة الأقصى، وهي المتصلة بشيوع الجدل حول صلاحية عرفات كشريك. وقد أطلق (باراك) نفسه ذلك الجدل حين قال "تتبلور صورة يتضح منها أنه لا يوجد لنا شريك للسلام". ووصل الأمر بالجنرال حد القول "إما أن يصحو عرفات أو أن يستبدل في يوم من الأيام"، حسبما أورد المحلل الإسرائيلي "عوزي بنزيمان" في "هآرتس".


"
شلومو بن عامي" وزير الخارجية بالوكالة ردد نفس الكلام، حين قال بأنه ليس متأكداً من أن بالإمكان التوصل إلى اتفاق مع عرفات الذي يرفض اليد الممدودة للسلام. مضيفاً القول "نعلم أن عرفات لن يبقى إلى الأزل وربما نجد بعده شريكاً أفضل".


المراسل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت" رون بن يشاي قال إن "تقديرات أجهزة الاستخبارات والأمن الإسرائيلية بأن عرفات ليس قادراً على التوصل إلى اتفاق نهائي قد تعززت وعليه لابد من إرجاء المفاوضات حتى يأتي بديل لعرفات". وازداد الأمر سوءً حين جرى تهديد عرفات من قبل نائب رئيس أركان الجيش "موشيه يعلونوف" الذي قال "لا أحد في السلطة الفلسطينية ولا حتى عرفات يتمتع بحصانة خاصة". فيما المعروف أن عرفات يتمتع فعلاً بتلك الحصانة بضمانة أمريكية/مصرية.


بالمقابل، فإن ثمة آراء أخرى تشددت في رفض هذه الوجهة في السياسة الإسرائيلية. فهذا "عكيفا الدار" المراسل السياسي لصحيفة "هآرتس" يرى "أن عرفات ليس زبوناً بسيطاً، بل هو الشريك الوحيد الموجود، واستبداله بآرئيل شارون "يقصد حكومة الوحدة الوطنية" هو عودة خاصة إلى خليط من حرب المليشيات على نمط الجزائر في المناطق والحرب الأهلية على نمط البوسنة داخل الخط الأخضر. وعندما يحصل ذلك، سيكون اليمين واليسار محقين معاً، ولكن طوال الطريق إلى المقابر". أما الكاتب "شاؤول شعل" في "يديعوت أحرونوت" فقد كتب في (17/10) أن "عرفات ليس مجرد رقم. إنه رمز يعمل في الواقع المتقلب". وقد رأى زميله في الصحيفة "غي باخور"، أنه "حتى "انتفاضة الأقصى" كان عرفات بتقديري هو العنوان الملائم لمسيرة المصالحة مع إسرائيل. أما الانتفاضة فقد جاءت لتلقي عليه ضوءً مغايراً". مضيفاً أنه "تحوّل من ذخر للمسيرة السلمية إلى عبء عليها".


لماذا هذا الجدل؟


في قراءة هذا الجدل يمكن القول إن من الصعب تصور قناعة إسرائيلية جديدة بشأن عرفات وضرورته للتوقيع على الاتفاق النهائي، أما التهديدات التي أطلقها القادة والمحللون، فيمكن إدراجها ضمن سياق الضغط النفسي على عرفات لاستعجال الاتفاق النهائي، كما يمكن وضعها ضمن سياق تبليغ رسالة إلى الآخرين في السلطة بأن مسألة الخلافة يجب أن تأخذ في الاعتبار وجهة النظر الإسرائيلية، إذ هي وحدها التي تقرر ما إذا كانت ستعطي "الحصانة" للخليفة الجديد أم لا. ولا شك أن قادة السلطة لا سيما القادة الأمنيون من بينهم يدركون حجم الاختراق الموجود والذي يجعل بمقدور الإسرائيليين التخلص من أي شخص، بطريقة فنية سواءً بشكل مباشر، أم بردها إلى الخلافات داخل البيت الفلسطيني.


المسألة إذن دخلت في لعبة الخطوط الحمراء، والإسرائيليون لا سيما "باراك" بدأ يضيق ذرعاً بما يجري، وهو يريد أن يحقق شيئاً بسرعة يعيد له بريقه كقائد سياسي تاريخي، بيد أن هذا الوضع الذي يعيشه "الجنرال" قد يدفعه إلى ارتكاب حماقة على غرار تلك التي اقترفها سلفه بيريس، وينقلب السحر على الساحر. من المؤكد أن لذلك كله علاقة بقضية انتفاضة الأقصى التي يصعب تصور استمرارها بذات الزخم دون قرار من عرفات شخصياً، نظراً لإمكانية ذلك من زاوية أمنية وعدم وجود احتمال جدي بتمرد من فتح، أو قرار من حماس والجهاد والقوى المعارضة بتحدي السلطة والوقوع في صدام معها من أجل استمرار الانتفاضة. كما أن لما يجري علاقة أيضاً بمستقبل "أوسلو"، فإما أن يفضي إلى المسارعة في تطبيقه وفق وثيقة "بيلين – عباس" أو على نسقها-وهذا الأخير هو المرشح الأوفر حظاً للخلافة حتى الآن، ويرضى به الإسرائيليون- أو تتفاقم الأمور وفق تصعيد يصعب تحديد ماهيته، أو -وهو الاحتمال الأرجح- أن تستمر حالة المراوحة إلى زمن لا يعرف مداه.

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع