د. عبدالستار قاسم

أستاذ جامعي - جامعة النجاح - فلسطين

sattarkassem@hotmail.com

  5/6/2004

عرفات يجب أن يبقى البطل

 

لم أجد في كتب التاريخ زعيما نجا من محاولات اغتيال متكررة مثل عرفات، ولا قائدا خرج من كل مآزقه منتصرا سوى عرفات. يتمتع زعماء بحنكة وحكمة وبصيرة وقدرة على المناورة، لكن يبدو أن عرفات يتفوق على الجميع فلا يمسه ضير ولا قيادته تهتز. منذ عشرات السنين وهو يواجه الأزمات والحروب والمؤامرات، لكنه يبقى واقفا رافعا إصبعيه إشارة بالنصر المؤزر، ويستمر في حركته في الجو والبحر والبر دون وجل أو خوف.

تعرض عرفات لمحاولات اغتيال كثيرة، لكنه كان يفلت دائما في الدقيقتين الأخيرتين. كان القصف يأتي بعد دقيقتين من خروج عرفات أو قبل دقيقتين من وصوله، أو كان حدسه يدفعه إلى تغيير الطريق فتنفجر الموقوتة في الطريق التي كانت. وصفته إسرائيل وأمريكا بالإرهابي وتوعدتاه دائما لكن الوعيد لم يجد طريقا إلى النجاح؛ وأعلنتا عن ملاحقة أمواله، لكن الإفلاس لم يصل إلى جيبه؛ وحاولتا التقليل من شأنه، لكن الإعلام بقي يجري خلفه.

قرأت سير الأنبياء الذين من المفروض أنهم يتلقون دعما إلهيا، فوجدت أن بعضهم قد عذّب وآخرون قد قتلوا. حتى أن رسولنا النبي محمد عليه السلام تعرض للكثير من الدسائس والمكائد التي لم ينج منها جميعا. أما المسيح عليه السلام فأنقذته العناية الإلهية بنقله إلى السماء. أما عرفات الذي تفيد سيرته أنه يتعرض إلى دسائس ومؤامرات أكثر مما تعرض له الأنبياء فتتم إحاطته بعنايات عجيبة تنجيه.

ذكر أحد الضباط الصهاينة الذين شاركوا في حصار بيروت أنه وضع عرفات تحت الرماية أربع مرات لكن الأوامر كانت مشددة لديه بألا يطلق عليه النار. تحفظ كل القادة الفلسطينيين من مختلف الفصائل على تحركاتهم بسبب التهديد الإسرائيلي باغتيالهم، لكن عرفات بقي يجوب الجو. أجبرت إسرائيل طائرة سورية على الهبوط في شمال فلسطين ظنا منها أنها تقل جورج حبش، واغتالت فتحي الشقاقي وأبو جهاد، وهي تترصد أحمد جبريل منذ زمن طويل. إنها تتوعد قيادات فلسطينية كثيرة، وفي اغتيالها للشيخ أحمد ياسين والرنتيسي تعبيرا عن هذا الوعيد.

تأتي هذه المرحلة الأخيرة من تهديد عرفات والتي تمتد منذ حصاره في سراي رام الله. تهب زوبعة إبعاده أو قتله كل ستة أشهر تقريبا، وتستمر عدة أيام لتهدأ. ومع كل زوبعة يهب الإعلام مستنفرا للحديث عن نوايا إسرائيل ومخططاتها وعن صلابة عرفات والزحف الجماهيري المتجه نحو السراي تأييدا له. تنطلق بعض الحناجر بالهتاف وترتفع شعارات يا جبل ما يهزك ريح. تتحسن شعبيته في الشارع الفلسطيني بعض الشيء لتأخذ بالتآكل فقط بعد عدة الأيام.

يلاحظ المتتبع للحصار المفروض على عرفات وما يرافقه من تهديد أن المسألة متعلقة بالخطف الإعلامي وليس بإجراء إسرائيلي وشيك ضد عرفات. يشتد التهديد مع صعود الحركة الإسلامية بخاصة حماس إلى الفقرة الأولى في نشرة الأخبار، فيتم التركيز على عرفات فيُختطف الإعلام. يجب أن تبقى حماس في ظل إعلاميا حتى لا تستقطب المزيد من المؤيدين، وبطولاتها يجب أن تتحول إلى بطولات عرفاتية. يلاحظ المراقب أن إسرائيل تحمل عرفات المسؤولية عقب كل عملية استشهادية تقوم بها حماس، علما أن عرفات لا يتحمل حتى مسؤولية العمليات التي تقوم بها كتائب شهداء الأقصى المنبثقة عن فتح.

وتترافق أخبار الحصار والتهديد بالقتل والإبعاد أحيانا مع انخفاض شعبية عرفات. كلما انخفضت أرقام تأييده في الاستطلاعات يأتي الحصار ليرفعها قليلا.

تم اغتيال الشيخ أحمد ياسين والدكتور الرنتيسي مؤخرا فاحتلت حماس المرتبة الأولى في التركيز الإعلامي. سارع شارون لتهديد عرفات فتحول الإعلام الذي بالغ كثيرا نحو عرفات. طاف مؤيدو الرئيس الفلسطيني في رام الله والبيرة لحشد مظاهرة تأييدا لعرفات، لكن عدم تجاوب الناس دعا وزير التربية والتعليم لإعطاء الإذن بإخراج طلاب وطالبات المدارس حتى يبدو الحشد بالآلاف. أي أن الناس قد اعتادوا على المسرحية المتكررة ولم يعودوا على تلك السذاجة القديمة.

لتعزيز ظاهرة عرفات، يقرأ الدارس أن عرفات هو قائد الثورة الوحيد الموصوف بالإرهابي الذي لم يعاني من الإفلاس أبدا ولا من شح التركيز الإعلامي. ثورة عرفات كانت هي الثورة الأكثر ثراء في تاريخ الثورات العالمية، ولم يبخل عليها "أعداؤها" بالتسهيلات المالية والإعلامية.

وصفت أمريكا وإسرائيل عرفات منذ السبعينيات بأنه إرهابي، وبالرغم من ذلك، استمرت دول عربية موالية للولايات المتحدة بضخ الأموال في جيبه. ولم تبخلا أبدا بإطلاق التهديد ضده على مر العقود السابقة، الأمر الذي كان يستنفر وسائل الإعلام للإسهاب في المقابلات وتحليل الاحتمالات. وقد لاحظنا كم من التهديدات أطلقها عرفات ضد أمريكا وإسرائيل، وكم من قلة العمل الحقيقي كان قد حصل. لقد صاغ شعارات كثيرة وتوعد بضرب المصالح الأمريكية وملاحقة الأمريكيين ليتبين فيما بعد بأن منظمة التحرير الفلسطينية كانت توفر حماية للأمريكيين في لبنان، وليتبين أن قائد القوات الفلسطينية قد هرب من ميدان المعركة في صيدا عام 1982 بناء على أوامر من قائده الأعلى. التهديد إعلامي، والحقيقة ظهرت مع الأيام.

بالتأكيد أمريكا وإسرائيل لا ترغبان ببقاء عرفات الآن لأنه حسب تعبيريهما أنه قد هرم ولم يعد قادرا على ما كان يقدر عليه. ولكن حتى يستطيعون تدبير البديل، سيبقى عرفات البطل الفلسطيني الذي لا تهزه الرياح. ولهذا من المحتمل جدا الآن أن تنقل إسرائيل عرفات إلى غزة بطريقة تجعل منه مبعدا بالقوة وتجعل من قلوب الشعب والفصائل تهوي إليه. يرفض عرفات علنا المشروع الشاروني الآن، لكن المحلل الذي يقارن بين مشروع شارون وخريطة الطريق سيجد أن المشروع متطور عن خريطة الطريق ويتجاوزها في عدد من القضايا الحيوية. وهذا ما يقوي الظنون حول قبول عرفات بالمشروع.

هل هناك من مبررات واقعية للتحليل هذا والذي بالتأكيد يبدو غريبا للكثير من الناس؟ نعم. باختصار، قام عرفات أو لم يقم منذ تسلمه لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بالتالي: تهاون كثيرا إلى درجة الاستهتار في الأسلوب التنظيمي الحريص على الأمن والمنيع أمام الاختراقات الاستخبارية فكانت منظمة التحرير وما زالت هي والسلطة مرتعا للجواسيس والعملاء؛ شق مختلف الفصائل الفلسطينية وشق الانشقاق مستخدما المال الذي يملكه؛ أبقى الأموال الفلسطينية بجيبه ليبقى السيد الأكبر واستعمله لكسر إرادة الفصائل الفلسطينية وإبقائها ضمن حوزته حتى لو عارضته بالبيانات؛ عمل على عزل القضية الفلسطينية عن محيطها العربي والإسلامي وعلى حصرها في الساحة الفلسطينية ثم في ساحة الضفة الغربية وغزة؛ أحدث فسادا هائلا في مؤسسات منظمة التحرير المالية والتنظيمية، وزاده حدة عند قيام السلطة الفلسطينية مما أضعف الفلسطينيين أمام أنفسهم وأمام الآخرين؛ رفض على الدوام فكرة القيادة الجماعية وبقي متفردا بالقرار على الساحة الفلسطينية؛ فتح الباب أمام الأنظمة العربية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وإقامة جسور متنوعة معها؛ أساء لعلاقة الشعب الفلسطيني مع الشعب العربي في الأردن ولبنان وتونس والكويت، وخلال قيادته للسلطة عمل على تشويه صورة الفلسطيني من خلال الفساد الهائل الذي أحدثه على مختلف مستويات النشاط الفلسطيني.

هذه أعمال لم تكن إسرائيل لتنجزها مهما حاولت. أعمال إسرائيل أججت المشاعر الفلسطينية دائما وبعثت في الشعب الفلسطيني المزيد من الحماس للمقاومة وعززت الوحدة الوطنية الميدانية بين الشباب منن مختلف الفصائل، لكن أقوال عرفات بعثت الكثير من الأمل المزيف الذي انتهى إلى إحباطات. ظن الناس أنه يعمل ويحاول قدر استطاعته، لكن تجربتهم الآن بعد سنوات من عهد السلطة قد أثبتت أنهم قد تعرضوا لأكبر خدعة يمكن أن يتعرض لها شعب يبحث عن الحرية. هذا بالتحديد ما جعل منجاته في متناول اليد في كل مرة. إيقاع الأذى به لم يكن هدفا.

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع