إفساد الحياة النيابية في الوطن العربي: المجلس
التشريعي الفلسطيني مثالاً
2005/07/03
د.
أنيس مصطفي القاسم
الحياة النيابية في الوطن العربي في أزمة حقيقية، ليس فقط بما تعانيه
الانتخابات من تزوير، وليس فقط من سيطرة حزب واحد،سمه أو صفه ما شئت،
علي عضوية المجالس النيابية في عدد من الاقطار العربية أو التحكم في
الترشيح للعضوية، وليس فقط من الانقطاع الحقيقي بين النائب ومن
ينتخبونه من أبناء الشعب بعد الانتخابات، وليس فقط من سيطرة الحكومة
سيطرة تكاد تكون كاملة علي معظم المجالس النيابية أو مجالس الشوري،
ســـــمها ما شئت، وما يرافق ذلك من خنوع كامل لهذه الســـــلطة حتي في
أهم المواقف التي يجب فيها علي النائب أن يقف موقفا وطنيا يعبر عن موقف
الشعب الذي يفترض أنه انتخبه، وانما أيضا وفوق هذا كله لأن العضوية
أصبحت في الكثير من الاقطار مصدرا للثراء والتنافس من أجله، وما يتبع
ذلك من الحرص علي العمل المتواصل للبقاء في هذا الموقع بالتنازل عن
المواقف وبالنفاق للحاكم والعمل علي كسب رضاه، لمل يتيحه ذلك من فرصة
فرصة البقاء والاثراء.
والغريب في هذا الوضع أن يوجد قانون يشرع هذه الظاهرة ويشجع عليها بما
ينص عليه من مزايا وحقوق يتمتع بها النائب ولا تتمشي اطلاقا مع ماهية
الحياة النيابية. والقانون، في وطننا العربي، كما نعلم، هو املاء من
السلطة التنفيذية، وفي الحالة التي ندرسها فان السلطة التنفيذية تضرب
علي وتر الاغراء المادي الحساس الذي يجذب اليه استجابة شبه تلقائية من
السلطة التشريعية التي قد تجنب نفسها اللوم بحجة أن مقدم القانون هو
السلطة التنفيذية، ولا ذنب لها في الموضوع، متجاهلة أن من حقها أن ترفض
وأن تعدل. والطرفان يستغلان عدم متابعة المواطن للتشريعات، خاصة هذا
النوع من التشريع الذي لا تثار بشأنه القضايا ولا تطرح أحكامه للنظر من
جانب القضاء في نزاع يلفت أنظار الجماهير وتتاوله وسائل الاعلام بالبحث
والتعليق. وعندما يكون القانون هذا لخدمة مصالح السلطتين التنفيذية
والتشريعية بما يتضمنه من مزايا ومنافع، فانه في وطننا العربي يقر
ويصدر وينفذ في غيبة شبه كاملة من التدقيق، بل والمعرفة الشعبية
بوجوده. ولا يعلم بهذه الحقوق والمزايا الا المستفيدون منها أو
الراغبون في ذلك، بالرغم من أن القانون ينشر في الجريدة الرسمية. ولكن
كم من المواطنين يقرأون الجريدة الرسمية، وكم من المحامين ورجال
القانون يتابعون هذا النوع من القوانين الذي لا تثار بشأن تطبيقاته
خصومات تعرض علي القضاء؟ وبالتالي فان هذا النوع من القوانين قلما يلفت
النظر أو يتعرض المستفيدون منه للمساءلة أو المحاسبة. ونقول قلما لأنه
يصدف أن يقع خلاف بين النواب والحكومة علي بعض المزايا وتعلم الصحافة
به فتشير اليه، كالخلاف الذي وقع مؤخرا بين أعضاء البرلمان الأردني
والحكومة عن نوع السيارة التي يتمتع النائب بالمزايا بشأنها فنشبت
معركة ال بي.ام.دبليو وعلم الناس بها. والمزايا والحقوق هذه هي من أهم
وسائل الاغراء التي تقدمها السلطة التنفيذية للسيطرة علي السلطة
التشريعية. يتم ذلك والشعب لا يدري ما يحصل لأن شعوبنا لا تتابع
القوانين ولا تتابع نشاط النواب الذين انتخبتهم، والنظام لا يريد مجالس
نيابية حقيقية، تعبر عن ارادة الشعب ورغباته، تحاسب وتثير الاسئلة،
وانما يريد مجالس خانعة منافقة يحرص أعضاؤها علي رضا النظام وما يوفره
لهم من مزايا ويوفرون لسياساته من غطاء الشرعية البرلمانية.
انظروا مثلا ما حصل في الانتخابات المصرية الأخيرة. مرشحون رشحوا
أنفسهم علي أنهم مستقلون، وانتخبهم الناخبون علي هذا الأساس، واذا
بهؤلاء يعلنون انضمامهم للحزب الحاكم في أول جلسة يعقدها مجلس الشعب.
عملية خداع ونصب علي ارادة الشعب. لماذا فعلوا هذا؟ ليفوزوا برضا
الحاكم مقابل ما يوفرون له من أغلبية لم تكن له، وطمعا في المزايا التي
يتمتع بها عضو مجلس الشعب وما تفتـــح أمامه صفته هذه من أبواب. هؤلاء
كان يجب أن تسحب منهم العضوية لأنهم حصلوا عليها بالغش والخداع. غير
أنهم، مع الأسف، بقوا في مواقعهم، وطعنوا الحياة النيابية في الصميم.
وانظروا في مأساة جلسة مجلس الشعب السوري عند تعديل الدستور لانتخاب
الرئيس. ونحن لا نتحدث عن التعديل في حد ذاته، بالرغم مما لنا
ولغيرناعليه من تحفظات وما أرساه من سابقة خطيرة بدأت تحاول الانتشار
في العالم العربي والاسلامي، وانما نتحدث عن اجراءات. اجراءات شكلية
فقط لم يستطع مجلس النواب السوري الالتزام بها، خوفا من أعضائه علي
المزايا التي يتمتعون بها، أو خوفا من العواقب. في الجلسة قام أحد
النواب يذكرالرفاق باجراء محدد. لم يعترض المسكين علي المرشح ولا علي
التعديل، بل أراد أن يكون التعديل سليما من الناحية الاجرائية فقط، حيث
أن الدستور السوري يشترط أن يرافق قانون التعديل مذكرة بالاسباب
الموجبة له. ولم تكن هناك مذكرة، ولم يكن من الصعب علي رجال النظام أن
يكتبوا مذكرة في غاية البساطة يقولون فيها أن المصلحة العامة والظروف
التي تمر فيها البلاد تقتضي التعديل. سطر واحد كان يكفيهم. ولكن
الثائرة ثارت علي هذا المسكين وأرغم علي الاعتذار للمجلس عن تقديم
اقتراحه السليم، وجاء رئيس المجلس ليعلن علي الملأ، حيث أن الجلسة كانت
مذاعة، أن العضو قد أعلن توبته ، نعم توبته، عما فعل. لقد كفر الرجل
وتاب. هل يجوز هذا النفاق والي هذه الدرجة من رئيس مجلس الشعب؟ ولحسن
الحظ فقد نحي هذا عن موقعه بعد انتخابات تلت هذه الواقعة، غير أن طبيعة
المجلس نفسه لم تتغير، اذ بقي مجلس حزب واحد يتمتع هو ونوابه بالمزايا
والحقوق والسلطة.
نكتفي بهذين المثلين عن مدي الهوان اذي وصلت اليه المجالس النيابية في
معظم أرجاء الوطن العربي. أما محاسبتها للسلطة التنفيذية عن سياساتها
ومساءلتها عن ذلك واسقاطها عند الاقتضاء بسحب التقة منها، فمعظم
المجالس النيابية العربية لا تعرف شيئا من هذا. ولعل مجلس الشعب
الكويتي والمجلس التشريعي الفلسطيني قد شذا عن هذه القاعدة في عدد من
المواقف.
ويهمنا في هذا المقال التركيز علي مصدر خطير من مصادر احتمال افساد
الحياة النيابية في بلادنا، وهذا المصدر هو الاغراءات التي تنص عليها
القوانين الخاصة بحقوق وامتيازات أعضاء المجالس النيابية. وفي هذا
الشأن نتحدث عن الوضع في فلسطين، وله أمثاله في أقطار عربية أخري.
أقر المجلس التشريعي الفلسطيني قانونين أصدرهما الرئيس الراحل تعبيرا
عن موافقته عليهما وهما القانون رقم 10 لسنة 2004 والقانون رقم 11 لسنة
2004 ونشرا في الجريدة الرسمية العدد 52 المؤرخ 18 يناير 2005. القانون
الأول يتعلق بواجبات وحقوق أعضاء المجلس التشريعي والقانون الثاني خاص
بمكافآت ورواتب أعضاء المجلس التشريعي وأعضاء الحكومة والمحافظين.
القانون الأول يعدد واجبات العضو وهي واجبات تتمشي بصورة عامة مع
واجبات أي عضو في مجلس نيابي من حيث أنها تحظر عليه بعض النشاطات التي
ترتبط بالحكومة حرصا علي استقلاليته، كما تحظر عليه تولي أية أعمال
وظيفية أو استشارية لدي أية جهة كانت مقابل أجر. وعلي العضو أن يقدم
اقرارا بذمته المالية الخاصة به وبزوجه وبأولاده القصر، ويحفظ هذا
الاقرار مغلقا وسريا لدي محكمة العدل العليا ولا يجوز الاطلاع عليه الا
باذن المحكمة وفي الحدود التي يسمح بها القانون. هذه ومثيلاتها مما ورد
في القانون من واجبات معقولة في حد ذاتها وتتمشي مع الاستقلالية التي
يجب أن تكون لعضو المجلس النيابي.
هذا فيما يتعلق بالواجبات. ثم تعرض القانون للحقوق واذا من بينها:
(1) مكافأة شهرية
(2)بدل مهمات عن جلسات المجلس ولجانه تحدد بقرار من المجلس
(3) اعفاء جمركي لسيارة واحدة عن عضويته في كل مجلس تشريعي منتخب جديد،
يتولي المجلس تأمينها وترخيصها وصيانتها طيلة مدة العضوية
(4) جواز سفر دبلوماسي دائم له ولزوجته
(5) وبدون المساس بالحقوق يستحق العضو أو ورثته من بعده مبغا يساوي
12.5% عن كل سنة قضاها في المجلس بحد أقصي لا يزيد علي 80% من المبلغ
الاجمالي المحدد للمكافأة الشهرية مربوطا بجدول غلاء المعيشة يصرف
شهريا فور انتهاء عضويته في المجلس بانتهاء مدته أو بالوفاة أو العجز
عن أداء مهامه أو الاستقالة. ولا يجوز الجمع بين هذه المكافأة وأي راتب
أو مخصصات تقاعدية تصرف من حساب الخزينة العام.
القانون الثاني يضيف، ونستمر في الترقيم:
(6) المكافأة الشهرية حددت بمبلغ 3000 (ثلاثة آلاف) دولار أو ما
يعادلها بالعملة المتداولة قانونا.
(7) التقاعد حدد بأن لا يقل عن 50% من الراتب الشهري أيا كانت المدة
التي قضاها العضو عضوا في المجلس. ويجوز الجمع بين المستحقات التقاعدية
مع أية مستحقات تقاعدية أخري بما لا يتجاوز الحد الأعلي وهو 80% من
المكافأة الشهرية. ويلاحظ أن هذا النص الأخير يتعارض مع ما جاء في
الرقم 5 أعلاه من عدم جواز الجمع بين تقاعدين يصرفان من الخزينة
العامة.
(8) بدل تحسين أوضاع بقيمة 15000 دولار أمريكي ويصرف هذا المبلغ مرة
واحدة بغض النظر عن مدة الولاية.
(9) أية حقوق مالية أخري يقررها المجلس التشريعي لأعضائه، وهكذا تر
الباب مفتوحا للمزيد من الحقوق المالية، ولكن هذه المرة ليست بقانون
وانما بقرار من المجلس فقط.
هذه هي الحقوق المالية التي خصصت لعضو المجلس التشريعي في مجتمع ستون
في المائة من أبنائه علي الأقل يعيشون تحت خط الفقر حسب تقرير البنك
الدولي، وحددت هذه الحقوق دون أي اعتبار لطبيعة العمل النيابي وللعبء
المالي المرهق علي ميزانية سلطة تعيش علي المنح الخارجية، ودون أي
اعتبار للخلل الخطير الذي تحدثه هذه الحقوق في سلم المرتبات في السلطة.
انه هدر للمال العام لا مبرر له، ومدعاة للفساد، وتعبير سيء عن استغلال
السلطة التشريعية لفائدة أعضائها، والتي يفترض فيها أن تعمل نيابة عن
الشعب في المحافظة علي المال العام لا التصرف فيه لفائدة أعضائها بهذا
الشكل الغريب.
انها مخالفة لطبيعة العمل النيابي الذي يفترض فيه أن يكون عملا تطوعيا
في الأصل لا مصدرا للثراء وللامتيازات. القانونان لا يحرمان العضو من
ممارسة أية مهنة أو تجارة أو حرفة، ولا يتطلبان منه التفرغ الوظيفي
لعمله بحيث يستحق راتبا شهريا مقطوعا، وتقاعدا عن مدة نيابته. والأمر
لا يتوقف عند حدود الراتب الشهري، بل أضاف القانون حقا للمجلس التشريعي
بأن يقرر لأعضائه أية حقوق مالية أخري. وبموجب القانون رقم 10، فانه
يحق للمجلس أن يقرر لأعضائه بدل مهمات عن حضور جلسات المجلس أو
المشاركة في لجانه، هذا بالاضافة الي الراتب الشهري، أي أن المجلس
ينفرد باضافة أعباء مالية علي الخزانة العامة لفائدة أعضائه. وهذه
الأعباء لا تضاف بقانون تشترك فيه السلطة التنفيذية ووزارة المالية
بوجه خاص، وانما يقررها المجلس وتفرض فرضا علي الميزانية بغض النظر عن
أثرها فيها. هذا وضع دستوري غريب، أن يترك لأية جهة كانت أن تقرر
لنفسها حقوقا مالية تلتزم بها الميزانية العامة للدولة. الوضع السليم
هو أن تقرر مكافأة عن حضور الجلسات، لا أن يتقاضي العضو الاثنين معا
البدل والمرتب الشهري.
ولماذا المكافأة الشهرية بقيمة ثلاثة آلاف دولار ما دام أنه لم يشترط
علي العضو أن يتفرغ لعمله في المجلس؟ النائب ليس موظفا متفرغا، ولذلك
فان الراتب الشهري الذي يقرر له يأخذ هذا الأمر في الاعتبار، فلا يكون
في قمة الرواتب التي تدفع في الدولة وانما في أوسطها علي أكثر تقدير.
فكيف يقاس راتب عضو المجلس التشريعي مقارنة برواتب الموظفين المتفرغين؟
هذه مسألة يبدو أنها غابت عن المشرع الفلسطيني. هناك اختلال خطير في
الموازين وفي الفلسفة التي يستند اليها في تقرير المرتبات وغيرها من
الحقوق.
ليس هذا فحسب، بل انهم يستحقون تقاعدا في اللحظة التي تنتهي فيها مدة
المجلس أو عند استقالتهم أو وفاتهم، في حين أن الموظف عليه أن ينتظر سن
التقاعد، فيكون راتب لتقاعد هو الدخل الذي يعتمد عليه الكثيرون منهم
عندما يصبحون عاجزين عن العمل، في حين أن أعضاء المجلس التشريعي
يتقاضون تقاعدهم دون شرط بلوغ سن معينة، ومعني هذا أن العضو يستطيع أن
يستمر في ممارسة تجارته أو مهنته ويتقاضي هذا التقاعد الضخم الذي لا
يصل اليه الموظف عندما يصل سن التقاعد والعجز عن العمل المنتج. وهذا
التقاعد ينتقل لورثته عند وفاته، كما أن سيبلغ بسهولة الحد الأقصي وهو
80ً%، أي بعد أقل من سبع سنوات عضوية، مع ملاحظة أن القانون قد نص في
مادة استثنائية الا يقل الراتب التقاعدي عن 50% من الراتب مهما كانت
المدة التي يقضيها في عضوية المجلس. ولا يشترط في العضو أن يساهم من
مرتبه في تكوين صندوق التقاعد كما هي العادة.
هذا باب واسع لافساد الحياة النيابية باغراء المغامرين والانتهازيين،
خاصة وأن التقاعد سيكون علي الأقل خمسين في المائة من الراتب مهما كانت
مدة العضوية، وأنه يستحق مباشرة عند انتهاء العضوية لأي سبب كان. وقد
يكون العضو السابق لا يزال في قمة شبابه وقدرته علي العمل، ومع ذلك
يستحق هذا التقاعد المغري. وعلي هذا الأساس فان ميزانية التقاعد ستكون
في تصاعد مستمر بازدياد المستحقين لها من اعضاء جدد مع كل انتخابات
جديدة، خاصة وأنها ستكون وراثية الي ما لا نهاية، ولا يساهم الاعضاء في
تكوين صندوق لها، فأية ميزانية تستطيع تحمل هذا العبء؟
ولماذا لا يدفع العضو من هذا المرتب الضخم الرسوم الجمركية علي سيارته
أسوة بغيره من المواطنين الذين لا يصل دخلهم الي مستوي راتبه الشهري؟
لم يشترط القانون الا تستعمل السيارة الا في أغراض المجلس. فالسيارة
يستعملها العضو لقضاء أغراضه الخاصة في نشاطاته الأخري دون قيد. وما
دام الوضع كذلك فما هو المبرر ليكون تأمين السيارة وترخيصها وصيانتها
علي حساب المجلس وليس علي حساب صاحبها؟ وما دام أن العضو يستحق سيارة
جديدة معفاة من الرسوم الجمركية عند كل مجلس جديد، فان الفرصة تكون
متاحة للعضو للمتاجرة في سياراته دون أن تكون قد سددت عنها الرسوم
الجمركية. والخاسر دائما هو الخزانة العامة.
وأضاف القانون حقا غريبا للعضو وهو أن يكون له الحق هو وزوجته، وربما
زوجاته، في جواز سفر دبلوماسي دائم، وليس فقط طوال ما هو عضو في
المجلس. ومعني هذا أنه قد يكون تاجرا أو مهندسا أو مقاولا أو غير ذلك
ومع هذا يكون له الحق في جواز سفر دبلوماسي دائم بما يمنحه هذا الجواز
من مزايا معترف بها دوليا. هذا وضع لا تعرفه الدول التي تحترم جواز
سفرها الدبلوماسي أو تريد من الدول الأخري أن تحرم هذا الجواز.
ولماذا يتقاضي العضو بدل تحسين أوضاع بمبلغ خمسة عشر ألف دولار؟ ان
الناخبين الذين يمثلهم قد اقتنعوا به علي ما كان عليه، هذا هو المهم،
ثم ما دام يتقاضي هذا الراتب الكبير فلماذا لا يشتري منه البدلة التي
يريدها كما يفعل الموظفون والمواطنون من كافة الطبقات. هذه بدعة ومصدر
للثراء العاجل علي حساب المال العام.
واذا نظرنا الي العبء المالي علي الميزانية فان المبلغ الذي سيدفع يكفي
لاصلاح أحوال الكثير من الاسر الفلسطينية المحتاجة. فعلي وجه التقريب
اذا كان عدد أعضاء المجلس مائة فان هذه العلاوة لوحدها ستكلف الخزانة
العامة مليونا ونصف مليون دولار تدفع لمن يتقاضون ثلاثة آلاف دولار في
الشهر، ناهيك عن المزايا الأخري.
ولكي تتضح الصورة نشير الي الحقوق والمزايا في بعض الدول التي تزن
الأمور بميزانها الصحيح حيث نجد أن عضو البرلمان يتقاضي مرتبا وسطا،بل
وأقل من الوسط، بالنسبة للموظفين المتفرغين، فهؤلاء وحدهم هم الذين
يتقاضون المرتبات العاليــــة لأنه يحظر عليهم ممارسة أي عمل آخر
يتكسبون منه، وهم وحدهم الذين لهم الحق في نظام تقاعدي. أما أعضاء
البرلمانات فعملهم خدمة عامة في اطار نظام سياسي لا يسمح لهم بأن يكون
عملهم هذا سبيلا للثراء، فثراؤهم يأتيهم من عملهم الخاص، حيث لا يشترط
فيهم التفرغ للعمل البرلماني. ونضرب مثلا ببريطانيا والهند.
في بريطانيا مثلا قاضي المحكمة العليا، وهي محكمة بداية، يتقاضي ضعفي
ما يتقاضاه العضو في مجلس العموم، فالقاضي يتقاضي حوالي مائة ألف جنيه
في السنة، وله تقاعده الذي يصل الي ثلاثة أرباع مرتبه بشرط أن يقضي في
وظيفته مدة معينة حددها القانون، في حين أن عضو مجلس العموم يتقاضي
57485 جنيها في السنة أي حوالي ستة الآف جنيه في الشهر في دولة ميزانية
بلدية من بلدياتها أضعاف ميزانية فلسطين،بل وأضعاف ميزانيات عدد من
الدول العربية، وغلاء المعيشة فيه أعلاه في العالم، وليس للعضو تقاعد
عن عضويته ولا سيارة معفاة من الرسوم الجمركية يرخصها ويؤمنها ويصونها
مجلس العموم البريطاني، ولا جواز سفر دبلوماسي دائم أو غير دائم لا له
ولا لزوجته، ولا بدل تحسين أوضاع أو بدل حضور جلسات أو لجان. ويدفع عضو
البرلمان ضريبة الدخل العالية التي تبلغ 40%، وضريبة التأمين الاجتماعي
التي تشمل تقاعدا لكل مواطن عند بلوغ سن التقاعد وليس قبل ذلك، كما
ينفق منه علي اتصالاته بالناخبين، الذين يعدون بمئات الالوف، وزيارة
دائرته الانتخابية، ويتحمل نفقات السفر العالية سواء بسيارته أو بوسائل
النقل العامة، وعلاوة السيارة فيما يتعلق بعمله البرلماني، أي من بيته
لدار البرلمان، هي حوالي نصف جنيه للميل مع العلم أن ثمن لتر البنزين
هو حوالي ضعف هذا المبلغ. أما التقاعد فلا حق لهم فيه ما داموا قد
اختاروا العمل السياسي بدلا من الوظيفي. في بريطانيا يتقاضي الأمين
العام لمجلس الوزراء وهو أعلي موظفي الدولة، راتبا سنويا مقداره 200000
(مائتي الف جنيه) وهو تقريبا ضعف ما يتقاضاه رئيس الوزراء الذي يتقاضي
121437 جنيها في السنة أوثلاثة أضعاف راتب الوزير الذي يتقاضي 72862
جنيها سنويا. طبعا جميع هذه المرتبات نخضع لضريبة الدخل. والوزير عندما
يستقيل أو يقال يتقاضي مقابل نهاية خدمة مقداره راتب ثلاثة أشهر فقط.
لاتقاعد أو ما يشبه ذلك. السبب في هذه التفرقة بين الموظف وعضو
البرلمان أو الوزيرهو التفرغ من جهة وطبيعة العمل من جهة أخري.
وفي الهند، أكبر ديموقراطية في العالم والتي يتوقع لها هي والصين أن
تكون منافسا جديا للولايات المتحدة وأصبحت المركز العالمي لتكنولوجيا
المعلومات، نجد أن راتب عضو مجلس النواب 12000 روبية هندية. والدولار
الامريكي يعادل حوالي 43 روبية. ومعني هذا أن الراتب الشهري يقل عن 300
دولار، أي عشر الراتب المقرر لعضو المجلس التشريعي الفلسطيني. ويتقاضي
العضو 500 روبية يوميا عن الجلسات التي يشارك فيها. أما التقاعد فهو
3000 روبية (حوالي 70 دولارا في مقابل حد أدني مقداه 1500 دولار لعضو
المجلس التشريعي الفلسطيني) عن كل فصل برلماني مدته خمس سنوات يضاف
اليها 600 روبيةعن كل سنة تزيد عن الخمسة. وهذا التقاعد لا يتوارث،
وانما تستحق زوجة العضو الذي يتوفي 1500 روبية تدفع لها لمدة خمس سنوات
من تاريخ وفاة الزوج. أما السيارة فللعضو الحق في أن يأخذ قرضا يسدده
اثناء مدة العضوية ويصبح مستحقا بالكامل عند انتهاء العضوية. واذا لم
يأخذ العضو قرضا فانه يستحق علاوة تنقل مقدارها ثمانية روبيات للكيلو
المتر الواحد من مكان اقامته الي المجلس. ويدفع العضو ضريبة الدخل
كغيره من المواطنين علي هذه المزايا. وطبعا لا يوجد جواز سفر دبلومسي
دائم أو غير دائم، لا له ولا لزوجته. وفي الهند يعاد النظر في هذه
الحقوق والمزايا كل خمس سنوات لكي تتمشي مع تكاليف المعيشة. فحتي عام
2001 كان المرتب 4000 روبية زيدت في ذلك العام لتصبح الرقم الذي ذكرناه
وهو أقل من 300 دولار. وكما هو الحال في بريطانيا وفلسطين، فانه لا
يشترط تفرغ العضو لعمله النيابي.
اننا نعلم أن دولا عربية أخري قد أعطت نوابها حقوقا ومزايا مشابهة. وهي
كلها مطبات لافساد الحياة النيابية. ولن نكل عن تذكير الأخوة بأن النظم
العربية ليست هي القدوة التي علينا أن نقتدي بها، ونحن نري هذا الغليان
علي امتداد الوطن العربي الذي يطالب بالاصلاح، ونري بأم أعيننا الحالة
التي وصلت اليها الحياة النيابية في معظم أرجاء الوطن العربي، وهي حالة
مزرية بأي مقياس من المقاييس. أن واجبنا أن نشق طريقا لاحترام المال
العام وموازنة الأمور بميزانها الصحيح. قد يقال ان الدول المانحة هي
التي تتكفل الآن بدفع هذه المبالغ، غير أن هذا يتجاهل أن الوضع السليم
هو أن تكون في قدرة الميزانية العامة للوطن أن تنفق علي اجهزتها علي
الأقل من دخلها، والا ارتهنت المصير بيد الغير. وانها لنظرة قصيرة
وخاطئة الاعتماد علي العون الخارجي لتوفير ضروريات الحكم، فهل يستطيع
الدخل الفلسطيني من موارد فلسطين الخاصة أن يتحمل هذا العبء والأعباء
الأخري؟ واذا كانت الظروف الراهنة قد جعلت الاتحاد الاوروبي والدول
المانحة الأخري تسكت عن هذا الوضع، فماذا يكون الحال في المستقبل حيال
هذه الالتزامات التي فرضت علي الشعب الفلسطيني؟ هذا وضع لا يستقيم ويجب
الا يستمر.
من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية
|