ما بين روابط القرى والسلطة الفلسطينية

 
احمد منصور ـ المانيا


لقد مللت الذاكرة التي لا تفيق .. ولكأن ما يحدث اليوم من إشتعال لرماد الخيانة التي يتلظى شعب فلسطين على نارها ، هو حدث وليد الساعة وليس بعمر طفل قارب على إجتياز مرحلة سن البلوغ ، حسب التقويم الأسلوي .

تاريخياً ، فإن اللقاء الذي جرى يوم أمس الأربعاء في مدينة أريحا بين رؤساء السلطات المحلية "الإسرائيلية" والمتحالفين معهم من الجانب الفلسطيني ، ليس الأول من نوعه ، كما ظن البعض ، بل هو نسخة طبق الأصل عما حدث في السبعينات حين حاولت مجموعة من وجهاء ومخاتير الضفة الغربية وقطاع غزة تمرير مشروع "روابط القرى" ، الذي كان يهدف آنذاك إلى إجهاض العمل الفدائي ومقايضته بحكم ذاتي ، كهذا الذي فشلت السلطة الحالية في تحقيقه على الرغم من مرور 12 عاماً على قدومها من تونس .

وكعادتها السرية بعد كل انتفاضة جاءت حمائم منظمة التحرير هذه المرة كذلك ، لتطل برأسها من شرفات الفنادق والقصور معلنة بداية موسم اقتطاف ثمرات شجيرة لم تغرسها أياديها التي ماانفكت ترفع كؤوس النبيذ إحتفالاً بمعاهدات "سلام" ومسيلمة .. شجيرة روتها دماء من ساروا على حد السيوف ، كل هذا يحدث بعد أن قطع شعب فلسطين خلال فترة الأربعة أعوام ونصف العام الماضية ، مسافة تزيد على الـ 4000 شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى والأسرى والمصابين ، ليأتي هؤلاء الذين قضوا العمر في التنقل ما بين حد الشاقل والدولار ، لإعلان نهاية الانتفاضة الحالية ، تماماً وكما فعلوا بسابقتها .

والسؤال المطروح الآن هو ، كيف يقبل شعب فلسطين بإطاعة أوامر هؤلاء الذين أدمنوا التفاوض مع صهيون حتى الثمالة ؟ كيف يقبل رجال المقاومة بالوقوف مرة أخرى ، ما بين بداية الدرب ونهايته ومن ثم ترك خيوط الفجر لتعود أدراجها ويحل ظلام أوسلو الدامس على ربوع الوطن من جديد .

أقدر محتوم أم هو الهوان ، أن تظل فلسطين تصرخ جرحها الدامي وتعيد سرد حكاية إجهاض رعشات كرامتها للمرة الـ 57 بعد الـ 1948 ، وكل ذلك من أجل حفنة ، لا يعلو شأنها إلا بالانحناء أمام أقدام صهيون ؟

عشرات السنين مضت وحمائم منظمة التحرير تفاوض وكأن التفاوض بحد ذاته هو الهدف المتوخى تحقيقه ، دون أن تنجز ولو الجزء القليل من ذلك الذي حققته مجموعة من وجهاء القرى والمخاتير الذين أسسوا في السبعينات "روابط القرى" سالفة الذكر .

العجيب ، أن هؤلاء الوجهاء والمخاتير من روابط القرى ، وبرغم أن بعضهم كان أمياً ولا يفقه في السياسة كما يزعم اليوم "وزراء" سلطة أوسلو ، إلا أنهم كانوا على وشك الحصول من الاحتلال على حكم ذاتي متكامل في قطاع غزة والضفة الغربية وهو "إنجاز" كبير ، مقارنة بما حققته حمائم منظمة التحرير التي أجهضت انتفاضتين وأزهقت آلاف الأرواح من أجل الوصول إلى غزة وأريحا ، هذا في حال ما هبطنا بذواتنا إلى حضيض حمائم منظمة التحرير وكذلك روابط القرى ، واعتبرنا بإن التنازل عن 80% من فلسطين في سبيل إنشاء حكم ذاتي ومهما كان متكاملاً ، أو حتى دولة كتلك التي يريد الأسلويون إعلاء صرحها وسط كنتونات قطاع غزة والضفة الغربية ، واعتبرنا أن ذلك إنجازاً يستحق التسمية أصلاً .

نعم ، أن روابط القرى كانت ستحصل على حكم ذاتي في كامل مدن وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة ، لولا أن هذه المنظمة التي كانت ترفع راية تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ، تدخلت بقوة وأحبطت المشروع برمته بعد أن تمكنت من تصفية كل من له علاقة بروابط القرى ، على اعتبار أنهم عملاء لكيان صهيون ، حسب مصطلحات ثوار الأمس ـ "وزراء" اليوم .

و لم تكن قد مضت سنوات قليلة على إفشال منظمة التحرير لما أسمته حينها ، بالمخططات والمشاريع التصفوية ، إلا ووجدنا "الثوار" أنفسهم وقد خرجوا من رحم "ثورة حتى النصر" ، للإعلان عن بدء مسيرة شد الرحال واللهاث خلف سراب ذات المخططات والمشاريع التي سبق وأن وصفوها بالتصفوية والمرفوضة ، أي أنهم ساروا على ذات خطى روابط القرى العميلة .

يقال ، بإن حالة الوهن والضعف التي أصابت العرب آنذاك ، كانت السبب الذي اضطر بثوار الأمس ، قبول ما هو أقل بكثير مما كان مطروحاً على "روابط القرى" العميلة ، فإذا ما صح هذا التبرير ، فهذا يعني بأننا أمام معادلة سياسية لا يعرف فك طلاسمها سوى حمائم منظمة التحرير أنفسهم .. معادلة تعتمد أطرافها على إيجاد ذرائع "منطقية" مع بزوغ صباح كل يوم "ثوري" ، لتبرير التنازلات التي على ثوار الفنادق والبنوك تقديمها مع مساء كل غد إستسلامي ، لتصبح النتيجة في نهاية المعادلة ، إيصال شعب فلسطين إلى حدود البعد الخامس الغير موجود أصلاً ، أي أنه وفي حال استمر الواقع العربي على حاله ، وهو وضع مرشح وبامتياز للمزيد من الوهن والضعف ، فهذا يعني بإن ثوار الأمس ، استطاعوا اختراع متوالية عددية تنازلية تبدأ بالصفر وتنتهي بالصفر أيضاً .

الشهيد عرفات ، وربما كان ذلك هو السبب المباشر وراء دس أحدهم السم في طعامه وما تلى ذلك من حملات تشويه مسعورة لشخصه وتاريخه النضالي بعد رحيله مباشرة من قبل رفاقه بالأمس ، ظل وحتى آخر نفس في حياته يؤمن بإن عوامل انهيار كيان صهيون ، موجودة في داخل الكيان نفسه ، وأن ما على الفلسطينيين سوى مواصلة الصمود وعدم التفريط الفعلي في تراب الوطن ولهذا وافق على مخاطرة القدوم إلى غزة ، وقد بدت بالفعل ملامح ذلك الانهيار الذي تنبأ بها ، بالظهور رويداً رويداً على وجه "المجتمع الإسرائيلي" ، وهو الأمر الذي أدخل الرعب في قلب صهيون الذي استشعر الخطر المحدق ، لاسيما وأن مسامع صهيون الحساسة أخذت تلتقط إشارات غير سارة بالنسبة له ولمستقبل كيانه ومنها ، أن عرفات أوقف محاولة "إسرائيل" دفع دحلان لتوجيه ضربة عسكرية قاضية لحماس ، وإشارة أخرى تؤكد على أن الأقلية الفلسطينية في داخل الكيان ، بدأت ولأول مرة منذ نكبة عام 48 ، تتحدث عن رئيسها وهي تعني بذلك عرفات وليس كتساف ، ومن وقتها وصهيون يخشى "مواطنيه" أو بالأحرى من كان يفترض بإنهم كذلك ، فراح يتحدث عن مخاطر التركيبة الديموغرافية ويكثف من مساعيه لإطالة أجل طابع "إسرائيل" اليهودي فكان لابد من إزاحة الرئيس عرفات واستبداله ، وقد لاحظنا بإن صهيون لم يتمكن من قهر الفلسطينيين وإيقاف انتفاضتهم في ظل وجود عرفات على الساحة ، وها هو الآن وبعد رحيل الرئيس الحقيقي للفلسطينيين ، يفرض على مدمني التفاوض ، خطة فك الإرتباط والانسحاب من قطاع غزة ، بهدف التفرغ لعملية تهويد النقب والجليل وتوسيع مستوطنات الضفة الغربية بحيث لا تجد الدولة الفلسطينية مكاناً تقوم عليه وترفع علمها فوقه سوى فندق دحلان والمباني المحيطة به .

إن ما يحدث اليوم من مهازل على الساحة الفلسطينية بسبب أسلو وأخواتها ، يعود إلى بداية الثمانينات وبالتحديد ، بعد خروج المقاومين الفلسطينيين من لبنان والذي نتج عنه ، انقسام قيادات منظمة التحرير ما بين حمائم كانت تنتعش مع كل هزيمة عربية ، وصقور شل موت السكون حركات أجنحتها فأضحت غير قادرة على التحليق ، حيث أصبح من الطبيعي أن تستثمر الحمائم ذلك الوضع ، في ممارسة الضغوط على الراحل عرفات بغية تسليمها ملف ما كان يعرف بملف العلاقات الدولية ، وهو ما تم بالفعل ، وقد مثل ذلك ، بداية خروج حمائم منظمة التحرير عن قرارات الإجماع الفلسطيني ومن ثم المسارعة ببناء تحالفات خارجية ، مكنتها من تحييد عرفات في الكثير من الأحيان ، وأتاحت لها فرصة تحقيق حلمها القديم والمتمثل في الوصول إلى سلام مع "إسرائيل" ، لذا أخذت أسراب الحمائم بالتررد على العواصم الأوروبية لإجراء لقاءات سرية مع ساسة صهاينة ، أدت في نهاية المطاف إلى التوقيع على اتفاقية أوسلو المشؤومة والتي ومن أجل تنفيذ بنودها ، فقد عمدت الحمائم في منظمة التحرير إلى إنتاج هيكلية سياسية جديدة ، تنوب عن المنظمة في إتمام صفقات التفريط التي خططت لها مسبقاً .. هذه الهيكلية هي ما صار يعرف فيما بعد باسم "السلطة الوطنية الفلسطينية" .

وعليه نجد بأن من حق أي فلسطيني يرى ، كيف تواصل السلطة الحالية محادثات التنسيق الأمني مع كيان صهيون بهدف حماية مستوطناته ، وهي تعلم بنوايا صهيون الحقيقية وأنه ليس على استعداد لمنح الفلسطينيين عن طريق التفاوض ، مكان قبر في باحة الأقصى ناهيك عن دولة عاصمتها القدس ، نرى أن من حق أي فلسطيني توجيه نفس الاتهامات التي سبق وأن وصمت بها روابط القرى ، ألا وهي تهمة تصفية القضية لكل من يحمل حقيبة "وزير" تفاوض في سلطة أوسلو ولكل هؤلاء الذين اجتمعوا يوم أمس برئيس بلدية مستوطنة سديروت وغيرها من المستوطنات .

أخيراً ، وبرغم قتامة المشهد إلا أن المعطيات على أرض الواقع تؤكد بأن هذه السلطة المسماة بالوطنية هي أشبه ما تكون ببقعة عفن سوداء تطفو على سطح نهر جار وأن مثل هذه البقع ظهرت في كل مكان من العالم تم فيه مقاومة الإحتلال وكان مصيرها دائماً ، وكما علمنا التاريخ ، الإنجراف في مجرى التيار .

احمد منصور ـ المانيا

 

الى صفحة القائمة السوداء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع