وثيقة.. "هُدى"
خيري منصور
صحيفة الخليج الإماراتية 14/6/2006
إذا كانت وثيقة الأسرى الفلسطينيين هي وثيقة الشهداء الأحياء كما سماها الرئيس أبو مازن، فإن هناك جملة وثائق في التاريخ الفلسطيني تستحق أن تتحول إلى أيقونات، ومنها ما هو أقرب إلى التعويذة من شيطان الاحتلال وشرور الاستسلام، ولعبة تبادل الأدوار.
من هذه الوثائق التي لا يتردد الأسرى في أن يمهروها بتواقيعهم الباسلة وثيقة محمد الدرة، وأخيراً وثيقة توأمه الحي.. هدى، التي تفرض صرخاتها التي ترددت وكان لها وقع الزلزال الهداية إلى الحقيقة الوطنية الوحيدة التي لا تقبل الاختلاف.
وهي حقيقة الالتئام الوطني الفلسطيني في خندق واحد، بحيث يكون الخلاف الوحيد المسموح به تاريخياً وأخلاقياً ووطنياً هو على أي كتف توضع البنادق، وعلى أية سجادة نصلي أما القبلة فهي خارج مدار الاختلاف.
إننا نقرّ ونبصم بالأصابع العشرين بأن الأسرى هم الطلقاء الأحرار الذين نتعلم من صبرهم وعنادهم الوطني معنى الحرية، وثمن الاستقلال، ولكن وثيقة "هُدى" بعد أن حدث ما حدث على مرأى ومسمع من العالم بأسره، قد تنافس ذات يوم الماغناكرتا في الذاكرة البشرية.. لأنها وثيقة الحقيقة التي يشهد حتى الهواء والشمس وبحر غزة على أنها من لحم ودم وليكن اسم هدى رمزاً لوثيقة الدم بل العروة الوثقى في هذا الأوان الذي انفرطت فيه العرى وعزت الثقة. لم يختلف أولمرت وشارون عن شامير وبيريز وباراك ونتنياهو إلا في الكيفية التي يباد فيها الفلسطينيون، وفي أساليب الحصار والتشريد والاغتيال الجماعي.
وبالمقابل كان على الأطراف الفلسطينية ان تختلف اجرائياً وأسلوبياً في كيفية المقاومة، لكن الخطوط الحمر المرسومة بالدم الذي لا يقبل التصنيف إلى فصائل أو فسائل تمنع على نحو حاسم مثل هذا التراشق سواء كان بالكلام أو بالرصاص.
وما من تناقض على الاطلاق بين وثيقة الأسرى الطلقاء والبواسل وبين وثيقة هدى، طفولة فلسطين المهدورة، والكبرياء الوطني المسفوح على شاطئ غزة.. حيث لم تعد زوارق الاحتلال تصطاد السمك، بل تفرغت لاصطياد الفلسطينيين العزل.
إن إضافة وثيقة هدى إلى وثيقة الأسرى هي بمثابة إضافة الدم إلى الدم، والمقاومة إلى المقاومة، وكم يطمح هذا الشعب الجريح إلى لحظة يتحرر فيها الحوار من بعده السجالي العقيم، بحيث يصبح الاستفتاء حول هدى وذويها، ما دام الفلسطينيون على تباين المواقف والمواقع.. بدءاً من رأس السلطة حتى حركة حماس وغيرها من الفصائل يجمعون على أن ما مارسه الاحتلال على شاطئ غزة يوم الجمعة الحزينة، كان استباحة، وأنه عملية قذرة كما وصفها الرئيس عباس.
إن وثيقة هدى المقترحة علينا جميعاً، شهداء وأسرى وأحياء مدرجة أسماؤهم على قائمة القتل والاغتيال قد تتألف من مائة بند وبَنْد، لأنها تشمل قرناً من المقاومة وتنقطر فيها خلاصات تاريخ "عصيّ على التدجين"..
فيا أيها المطاردون فرداً فرداً، وناشطاً وخاملاً، ورجلاً وامرأة وطفلاً وحمساوياً وفتحاوياً وجبهاوياً، على اختلاف التسميات والنعوت، تحلقوا حول هدى ولتكن الهداية في حقبة الغواية والتيه.
وهذه ليست مواعظ تقفز على خطوط الطول والعرض لتضاريس السياسة الفلسطينية بقدر ما هي عثور على الحقيقة كلها وقد تجسدت في الطفلة "هُدى".
|