تبديد الوهم
رشاد أبوشاور
28/6/2006
كان لا بدّ أن يصعقنا المشهد ، ففيه من إهانة وطننا ، وشهدائنا ، وأمهاتنا ، وعذاب بناتنا وأولادنا ، مذبوحين ، أو هائمين ، تائهين على الرمل ، كميّة من الابتذال غير مسبوقة منذ بدأت مسيرة ( أوسلو) الكارثيّة ...
لكن من يعرفون رئيس السلطة ، ومن سمعوه يبشّر بدولة ( ولو على مزبلة) _ وهذا من أقواله المأثورة ، فليس ماوتسي تونغ ، وجيفارا ، وعز الدين القسّام ، وجمال عبد الناصر ، وهوشيمنّه ، ومانديلا ، وحدهم أصحاب الأقوال المأثورة _ لم يفاجأوا بما رأته عيونهم من مشهد عار لا ينسى ، ولا يغتفر ...
ارتمى رئيس السلطة على كتف ايهود أولمرت _ خذني بحنانك خذني ، فأنت الحضن الدافئ والملاذ _ بينما الأشلاء على الرمل ، وفي الشوارع وتحت الدمار، لم تجمع ، ولم تدفن ، وإيهود يعلن من فوق منبر حاملي نوبل للسلام : ( أرض إسرائيل من النهر إلى البحر ) ! ( لن نعتذر عن قتل المدنيين ...) ، وهذا ما دفع صحفيّاً فلسطينيّاً منحازاً ( لمسيرة السلام) ، أن يخرج ليعلن لقناة الجزيرة وهو يرتجف حنقاً : أولمرت جاء بخطاب حرب ، إنه سيغوص في دم الفلسطينيين حتى شعر رأسه ، أولمرت لا يريد سلاماً ...
رئيس السلطة بحسب مراسل الجزيرة ، استدرج من رئيس المؤتمر إيلي فيزل ، الكاتب عديم الأهميّة ، المشهور بالابتزاز ،أحد أبرز المتاجرين بمعاناة اليهود كما يصف أمثاله نورمان فنكلستين في كتابه ( صناعة الهولوكوست ) ، لتتحوّل الجلسة إلى وصلة ندب ، وعاصفة من الدموع ، ولطم على الضحايا اليهود !
لا ، لم يستدرج رئيس السلطة ، فهو سادر في خطابه البائس ، رغم كّل ما كتبناه عنه ، ونبهناه له ، فهو في شرم الشيخ ، وفي العقبة ،كان يندمج في حفل التأبين المتواصل منذ عشرات السنين ، بحيث تحسبه من آل الضحايا ، في حين يتلكّأ في مجاملة بيوت العزاء الفلسطينيّة ، أو يتجاهلها حتى لا تلحق به شبهة التعاطف مع (الإرهابيين) الفلسطينيين ! .
في المدينة الورديّة العريقة ، مدينة البتراء ، مدينة الأنباط العرب الأقحاح _ غريب أن فيزل وأولمرت لم يدّعوا بعد أن أجدادهم هم بناة البتراء _ التقى حملة نوبل للسلام ، ولكن غاب واحد من حملة نوبل للسلام ، غيّب هذا الواحد بالسّم ، ونسي وطويت صفحته ، فللسلام جنود من عسل ، يؤدّون مهمتهم الحلوة ببراعة !...
غاب ياسر عرفات عن مؤتمر السلاميين ، ولم يطالب بالتحقيق في ( موته) أخوه في المسيرة ، ولا أقول السلاح ، لأن أبا مازن ينفر بطبعه من مجرّد ذكر كلمة ( السلاح) . لم يمّر أبومازن على ذكر عرفات ، ولا تذكّره زملاؤه نوبليو السلام!
أي عربي رأى مشهد العناق والوله ، استنتج بان الحّب من طرف واحد ، لأن الحب علاقة متكافئة بين طرفين ، وبين أبي مازن وأولمرت لا تكافؤ ، فالمحتّل شرس ،عدواني ، مغرور بقوّته ، مخّه مسكون بالأساطير ، لا يقبل بغير مسح الفلسطينيين حتى لا يبقى منهم من يذكّره بحقّه ، وبأنه سيعود إلى بيته ، وسيبني وطنه، ويصحح هذا الغلط التاريخي المفتّعل والباطل . أولمرت يريد أي فلسطيني كراحاب في سفر الخروج ، زانية خائنة ، تؤمّن على حياتها مقابل خيانتها لأهلها ووطنها ! ...
أي فلسطيني بخّاصة ، وعربي بعّامة ، رأى المشهد ، استذكر لقاءات أبومازن مع الفلسطيني إسماعيل هنيّه ، وقارن ...
مع أولمرت يرتمي أبومازن على صدره ويمرّغ الرأس على كتفه ، رغم صّد أولمرت وبروده ، ومع إسماعيل هنيّه يجلس متوتراً ، مبوّزاً ، مربّد الملامح ، يوّد لو تنخسف الأرض بالفلسطيني الطيّب إسماعيل هنيّه ، الصبور ، والمؤدّب ، والصدر الأخوي الرحب ..ترى : هل يجب أن يكون إسماعيل هنيّه يهودياً حتى تحبّه يا رئيس السلطة ، وتهّش وتبّش في وجهه؟!
تبديد الوهم :
أبدا بمطلع تلك الأنشودة التي أنشدتها حناجر فدائيين رحلوا وكلماتها في افواههم ، وحلوقهم ، وقلوبهم :
طالعلك يا عدّوي طالع
من كّل بيت وحارة وشارع
هذه العمليّة ، عملية ( الوهم المتبدّد) ، عملية كرم أبوسالم ، محرجة لجيش الدفاع ، فأن يحفر ( الفدائيون) الفلسطينيون الأرض ، وينبعثوا من رحمها ، وأن يباغتوا جيش الاحتلال ، فإن الأنشودة تتألّق من جديد ، وهي تعبّر عن روح شعب ، ولا داعي لمزيد من الأوصاف ...
فبعد مشهد رئيس السلطة ، وبعد خطاب أولمرت ، ملأ المشهد الفلسطيني المقاوم الشاشات ، مثيراً بكّل المقاييس ، فلا الجدار ، ولا الحواجز الإلكترونيّة ، ولا أجهزة الرّصد الأمريكية الدقيقة ، ولا قطع الأموال ، ولا الحصار والتجويع ، ولا ...قادرة على أن تطفئ روح المقاومة ، وقدرة المقاومين على الابتكار ، والمباغتة ...
عمليّة نظيفة ، دقيقة ، استهدفت موقعا عسكريّاً محصناً ، لم يسقط فيها مدنيون ، ولذا فهي محرجة جدّاً لأكثر من طرف ! .
الناطق بلسان رئاسة السلطة صرّح : لقد فوجئنا بهذه العمليّة المحرجة ، فنحن كنّا في حوار ...!
ألا تنّص وثيقة الأسرى على المقاومة بكّل السبيل ؟ المقاومة بالسلاح ، بقدر المستطاع ، هي الخيار الأبرز ، فلماذا فوجئتم ؟ طبعاً ، هم لايريدون عمليات عسكريّة حتى تبقى (حماس) متهمة بأنها تخلّت عن الخيار العسكري ! ...
المحرجون فضحت عجزهم عملية ( الوهم المتبدّد) ، كما بددت وهم الاحتلال بأن الفلسطينيين يئسوا بسبب الحصار ،والخنق الرسمي العربي ، والاغتيالات اليوميّة ...
هذه العمليّة العبقريّة الكبيرة ، ليست مجرّد إبداع عسكري فقط ، إنها ثقافة ! ..نعم ثقافة يا سادة ، فهي خطاب سياسي نقيض لثقافة الاستجداء والارتماء في أحضان أولمرت ...
الأوسلوين ، والفاسدون ، والمشغولون بافتعال كل ما يعطّل الحياة الفلسطينيّة ، بهدف العودة للتسلط على شعبنا ، صدمتهم عملية ( الوهم المتبدّد ) ، تماماً كما صدمت وفاجأت جيش وقادة العدو ...
أمّا شعبنا فإنه وهو يلّم أشلاء أبنائه وبناته قد استذكر تلك الأنشودة الفدائيّة ، فترحّم على من رحلوا وهم ينشدونها ، وبارك من تحبل بهم أرضنا ، وتنجبهم في ساعات ، فيخرجون من رحمها محاربين ليس بينهم وبين عدوهم سوى النار والحديد ...
لشعبنا طريق ، ولمن يقبّلون عدونا ويرتمون في حضنه طريق ، وطريقانا خطّان لا يلتقيان ، ومن يخرج من عمق الأرض مشهراً سلاحه غير من يرتمي على صدر قادة العدو ...
|