من يوقف هذا النزيف.!؟

عدنان كنفاني

يذبحنا الألم ونحن نتابع بداية اقتتال الأخوة في فلسطين "غزّة والضفّة".. من كانوا رفاق خندق الأمس وأخوة السلاح وزملاء التضحية والفداء.
فهل استطاعت مكائد الصهاينة أن تصل إلى مبتغاها.؟وهل غاب العقل ونامت الحكمة واختلطت بوصله الأولويات في مسألة صراعنا الطويل مع المشروع الصهيوني.؟
غريب هذا الذي يجري والذي أوصل الحال بنا وبيننا إلى هذا الحال الذي يسعد الأعداء ويؤلم الأصدقاء، فهل تناسينا سموّ قيمة النضال والكفاح أمام مغريات آنية لا تعني غير القلّة الذين فرضتهم الظروف على سدّة القرار في فلسطين.؟

وهل تناسينا عقوداً طويلة من النضال، ومواكب تترى من الشهداء والجرحى والأسرى قدمها الشعب الفلسطيني جيلاً وراء جيل على مذبح فلسطين كل فلسطين ترابها وبحرها وسماءها وناسها وتاريخها وتراثها وثقافتها، فكيف يجرؤ أحد أن يتنكّر للدم الفلسطيني الذي نزف بغزارة وصورة فلسطين ماثلة أمامهم.

سينبري من يقول إنني أتحدث بعيداً عن مشاهدات وواقع العصر الحالي، أتحدث بالعاطفة التي لم يعد لها مكان في زمن القوّة، أتحدث عن ثوابت كانت ولم تعد بذات القيمة أمام معطيات واتفاقيات وتوقيعات جديدة أقرّها وقبلها العالم، أو كأنني أتحدث ولا أعرف أين يقف ميزان القوّة في العالم، فنحن ضعفاء وهم أقوياء، وبعض العرب من يقف في الخندق المعادي.

وقد يكون أي اتهام من تلك التهم له ما يبرره، وله ما يدلل عليه ومن يستشهد به، لكنني أمام ما يجري الآن وما يمكن أن يجري غداً، أمام فلسطين وأمام عطاء الشهداء والحالمين، وأمام ذلك الأمل الذي أبقى فينا جذوة حب الحياة والنضال من أجل البقاء كفلسطينيين رغم كل المكائد التي حاولت مس وطمس وإلغاء هويتنا ووجودنا على مدى أكثر من نصف قرن ماديّ، وأكثر من قرن ترتيبا وتخطيطاً وتآمراً، لا أستطيع إلا أن أعلن صرختي للعقلاء والمخلصين من شعبنا الفلسطيني العظيم، ولا أصب زيتاً على نار، ولكن آن لنا أن نكشف كل أوراق المشبوهين  الذين يلعبون بنا وبمصيرنا، ويقدحون زنادات نار لن تبقي ولن تذر غير فرحة للأعداء بتحقيق انتصارٍ لمشروعهم الذي تعثر كثيراً وطويلاً بفعل نضالات الشعب الفلسطيني وعطاءاته غير المحدودة، لتأتي قلّة مأفونة مارقة من بين صفوفنا تهديهم نصراً ممهوراً بالذل والخنوع والمهانة.

عندما كتب الشعب الفلسطيني ميثاقه الوطني كانت فلسطين كلها هي الحلم وهي الأمل وهي الغاية وهي الهدف، وعندما شطبت منظمة التحرير الفلسطينية "بتصويت رفع الأيدي" التي سميت الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني بنودا من الميثاق، لم يكن بقرار شعبي أبداً ولم يكن بإجماع شعبي بل كان تمريراً لمرحلة بدت في ذلك الوقت قطوفاً دانية لسلام مرحلي آت، وبعد أكثر من ربع قرن.. هل تحقق شيء من لعبة السلام.؟ وهل توقف الصراع.؟ وهل توقفت مسيرة المشروع الصهيوني.؟ وهل توقف القتل والتدمير عن شعبنا.؟

وبعدها عشرات من الاتفاقيات والبروتوكولات كلها على مقولة السلام فهل تحقق شيء من ذلك.؟

لقد كانت فصائل المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها تنظيم فتح الحامل لفكر المقاومة ومواصلة النضال والتصدي لكل انحراف عن الثوابت الوطنية، وهذا ما أبقى القضية على واجهة الأحداث إلى أن دخلنا عصر الحداثة العالمي، وعصر الانفتاح الفتحاوي.، أو لنقل بكلمة أدقّ عصر الفساد في القيادة الفتحاوية.

لقد مثّل المرحوم ياسر عرفات رمزاً من رموز الشعب الفلسطيني ومأثرة من مآثر نضال هذا الشعب ولكن أمام ظروف أشد وأعتى، وأمام بطانة ضاغطة بدأ مسيرة التنازل، ولكن وللحق أقول فقد قدّم حياته متمسّكاً ثابتاً على مطلبين هما في صلب موضوعة الصراع (القدس عاصمة لفلسطين، وحق العودة لفلسطينيي الشتات..) ثابتان لم يكن لا عرفات ولا غير عرفات يستطيع التفريط فيهما، وقد قتل من أجلهما مسموما محاصرا ليرثه من كان المحرك الأهم في التخطيط لأوسلو وغير أوسلو عبر صفقة مشبوهة جرت بعيداً وفي ظلام ليل، ويرث أموال منظمة التحرير، وشلّة الفاسدين في قيادة فتح ومنظمة التحرير وصفقات أخرى لا يعلمها غير الله.

وبدأت علائم التنازلات الكبرى تتبدى يوما بعد يوم، وهذا ما أفرز وبقوة تياراً جديداً لمقاومة المشروع الصهيوني متمثّلاً بقوى إسلامية سواء في حماس أو في الجهاد أو غيرهما.

وهنا لا بد لي أن أقول أن التيار الإسلامي شريكاً في المقاومة وليس سبّة ولا تهمة ولا من خارج السرب، وليس إرهاباً، فنحن في هذه المنطقة بأغلبيتنا ننتمي إلى الإسلام وهو ديننا ومنهجنا الروحي وهو المستهدف تحت تهمة الإرهاب.

عبر انتخابات نزيهة وديموقراطية جاءت المفاجأة التي لم تتوقعها لا فتح ولا الصهاينة ولا أمريكا، فقد فازت حماس، وفاز التيار المطالب بالتغيير، وفازت إرادة المقاومة، وهذا لم يأت من فراغ بل من يأس عام من دوام معاناة الشعب ومن مقولة السلام ولا سلام، ومن المفاوضات التي لم تأت إلا بمفاوضات وشعارات أبعد ما تكون عن أمنيات الشعب الفلسطيني.

الصدمة الكبرى لم تكن للصهاينة بشكل مباشر بل كانت للفاسدين في قيادة فتح الذين أثروا على دماء الشعب الفلسطيني فكشفوا عن وجوههم القبيحة وأعلنوا خذلانهم بلا خجل، وشاركوا بل كانوا في مقدمة ضاربي الحصار بكل أشكاله على حكومة وشعب فلسطين إضافة إلى الحصار الصهيوني والأمريكي والأوروبي.. والعربي. في محاولات مستميتة لإسقاط حكومة حماس والعودة بالقضية إلى المربع الأول، وبقاء الفاسدين في مواقعهم مسلحين بسلطة منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.!

فهل حقاً ما زالت منظمة التحرير الممثلة لمتطلبات الشعب الفلسطيني.؟ أم أن الشعب الفلسطيني شعب لا يفهم ولا يعرف أين مصالحه.؟

ألم يحن الأوان لضخ منظمة التحرير بدم جديد وفكر جديد وإخلاص جديد وترتيب جديد يمثّل بحق كل أمنيات شعب فلسطين.؟

نعم الجوع كافر، وأنا مع مقولة "من لا يجد قوتاً في بيته فليخرج شاهراً سيفه على الناس".. ولكن من يفرض على شعبنا الجوع.؟

أين الأموال التي ورثها عباس من عرفات.؟

وأين أرصدة منظمة التحرير الفلسطينية.؟

وأين مداخيل الاقتصاد "التجاري والزراعي والصناعي" والرسوم والضرائب، وأين واردات كازينو أريحا الذي أنشئ كما قيل بداية لإنعاش الاقتصاد الفلسطيني.؟

أين الأموال التي تأتي من التبرعات الدولية غير الرسمية.؟

أين ثمن الإسمنت الذي يساهم في بناء الجدار العازل.؟

قال السيد عمرو موسى أن الجامعة العربية استلمت أموال بعض التبرعات العربية من دول عربية.. أين هي وما مصيرها.؟

شحنات المواد الغذائية العينية والمادية التي تدخل إلى فلسطين من مصر أو من الأردن أين هي وكيف توزّع.؟

رواتب عناصر ميليشيات دحلان التي تفعل الآن ما تفعل لإذكاء نار الفتنة، من أين تأتي بهذا الكم.؟ ولماذا.؟

كنا نحسب أن المرحوم عرفات هو وحده من كان يعطي الأموال بغير حساب إلى بعض بطانته، لكننا نكتشف اليوم أن خلفه يسير على نهجه، فهل يتفضل السيد عباس ويعطينا رقماً عن ثروته الشخصية المودعة في بنوك أمريكا وأوروبا.؟

وهل نستطيع أن نعرف أرصدة السادة بعض القادة في فتح وبعض من يمثلون الشعب الفلسطيني في منظمة التحرير ولا أدرج أسماء بل أصبحوا مكشوفين ومعروفين.؟

الفساد أبو الكبائر، والثراء السهل، يغري بطلب المزيد فقد قال أحدهم يوماً رصيدي مليوني دولار وأتمنى أن يصل إلى خمسة.. الآن رصيده أكثر من عشرين مليون دولارا.؟

فهل نتوقع من هؤلاء الفاسدين أن يتخلوا عن برامجهم ولو كان في دوامها قتل شعب كامل.؟

إن الصراع بين الغرب والشرق قدر أزلي بدأ منذ أول التاريخ والله أعلم متى وإلى أين ينتهي، وقدرنا أن نكون في جهة بعينها، وأن نبقى في قلب هذا الصراع لا أن نتهادن ونتنازل ثم نتلاشى إلى لا شيء، ومن ينتظر الخير من أحد منهم فهو واهم.

نحن اليوم على أبواب فتنة سببها الأول حصار الجوع على الشعب الفلسطيني وهو أنذل أنواع الصراعات، وهذا الحصار ولنقل بملء الفم تذكيه وتساهم به وتحرض عليه وتشدده القيادة الفاسدة في فتح، وهي المسؤولة أولاً وأخيراً عن وصول الحال إلى هذا الدرك، وما يزيد الطين بلّة شلّة المنتفعين من أقلام لا يفقهون نتائج إشعالهم لنيران الفئويات والأيدلوجيات، فالأمر ببساطة في أن نكون أو لا نكون، وقدرنا أن نكون.

ولست أملك حلولاً سحرية في ظل سوء النوايا من بعض أطراف لا يهمهم غير ذواتهم، ولكن كان من السهل أن يعلن عباس موقفاً أمام سادة البيت الأبيض بأن ذلك السقف هو أقصى ما يمكن أن نعطيه أو يستقيل، أما إساقط حكومة حماس الآن في هذا الوقت فستكون له تداعيات كارثية على الشعب الفلسطيني.

وليتنا جميعاً في هذا الظرف العصيب الذي نسينا فيه مسألة الأسرى، ومسألة التعديات والقتل اليومي، أن نحتكم إلى الشارع الفلسطيني ونضع كل خلافاتنا في سلّة واحدة أمام خيارات الشعب الفلسطيني، وأنا على يقين أن ذلك سيحسم إلى الأبد كل خلافات بيننا.

إن الاعتراف بـ "إسرائيل" خيانة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، خيانة لدماء الشهداء وللتاريخ وللثقافة الفلسطينية، خيانة للأسرى والمحرومين والجوعى والمشردين، خيانة لكل قيمة مثلى في الحياة، ولا أعتقد أن أحدا من شعبنا الفلسطيني يرضى أن يحمل هذا العار.

فلنحتكم إلى العقل والحكمة والرصانة، وليبق السلاح موجهاً إلى جهة الأعداء المتربصين بنا..


 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع