مونديال الدم في غزة

 سعيد دويكات / نابلس - فلسطين

تتصاعد حمى المونديال العالمي في ألمانيا وتشتد المباريات حماسا ويزداد المشاهدون انفعالا وتعصبا لفرقهم ، ولكن ما يميز المونديال هذه المرة أنه لم يكن متاحا للجميع ، بل اقتصر الأمر على أصحاب الجيوب  العامرة بالدولارات  والتي تتميز بطبيعة الحال بالقدرة الفائقة على فتح الأبواب المغلقة ، وليس فقط فك تشفير بعض القنوات !!

هذه الأحداث تدور بعيدا عنا من حيث الجغرافيا ، ولكنها تدخل بيوتنا كل يوم وكل ساعة  ، بحيث شغلت الكثيرين حتى عن طعامهم !!

وكالعادة لدينا نحن الفلسطينيون ما يشغلنا فإن كان العالم ينشغل بالمونديال الكروي في ألمانيا ، فلدينا مونديال دموي في غزة والضفة الغربية ، ولئن كان المونديال الألماني ( مشفرا ) ، فمونديال الدم عندنا متاح للجميع وعلى مدار الساعة ، وليس محددا ببرنامج خاص وأوقات محددة وملاعب مخصوصة كما هو الحال في المونديال الكروي ، لأّّّّن مساحة الملعب في غزة والضفة  مفتوحة ، وتنتهي بانتهاء مدى قذائف الدبابات أو الصواريخ ، أما عن الأهداف فحدث ولا حرج ،  فكل طفل وشيخ وامرأة يصلح أن يكون هدفا مناسبا وصيدا ثمينا ، وكلما كان الهدف  (عائليا) كان أفضل !! والأهداف عندنا ثابتة ومتحركة كلها تصلح للاصطياد دونما بأس .

قوانين المونديال عندنا تختلف قليلا عن الآخرين ،في مونديال ألمانيا تجري المباراة بين الفريقين على الأرض ، أما في حالتنا( فالمباراة) تجري بين فريقين أحدهما في الأرض  والآخر في السماء !! حيث تلهو الطائرات لبعض الوقت  ،وتقذف للأطفال بدل الكرات بعض الصواريخ ، وليس هناك كبير فرق بين لاعبي المونديالين ، اللهم إلا أنهم في ألمانيا يتسربل اللاعبون بعرقهم بينما في  غزة يتسربل الأطفال بدمائهم !!

لا ممنوعات في مونديالنا ، لا بطاقات صفراء ولا حمراء ولا تسلل ،  بل لا حكام أصلا في الملعب ! !ولا وقت أصلي للمباراة بل إن الوضع الطبيعي هو التمديد ، لأنهم  يعتبرون انه لا حق لنا في الحياة وأننا نلعب في الوقت بدل الضائع !!

 وأكثر ما يميز مبارياتنا( ضربات الجزاء ) هي عند الناس ضربات جزائية قليلة على مخالفات عنيفة ، وعندنا لها اسم آخر هو ( ضربات وقائية ) ، وهذا الاسم وحده يكفل تنفيذها في أي وقت دون أدنى مبرر .

في مونديال ألمانيا طريق الفريق الخاسر معروفة ،  وتتمثل بمغادرة الملعب باتجاه الفندق وحزم الحقائب باتجاه المطار ومن ثم العودة حيث الأهل والأبناء والأحباب ، مع بعض الدموع على فراق المونديال مع أمل بالعودة بعد أربعة أعوام  ،  أما خارطة الطريق في مونديالنا فتبدأ من لحظة إصابة( الهدف ) ومن ثم نقله إلى المشفى ( إن بقي منه شيء ينقل ) ومن المشفى إلى المقبرة حيث لا أهل ولا أبناء ولا أحباب ، ودموع أحزان على فراق حبيب إلى الأبد  لن يعود..

لكن مونديال ألمانيا إذا ما قيس بالعدالة البشرية فيه الكثير من العدالة ، ففيه العقوبة للمخالف وفيه التكريم والارتقاء للفائز ، والمغادرة للخاسر ، كل شيء يتم أمام الناس والنتيجة التي تتم أمام الناس يتم التعامل مع الفرق على أساسها فلا يمكن بحال بعد انتهاء اللعب أن تغير نتيجة مباراة وان ينقلب المهزوم إلى فائز أو أن يصبح الفائز مهزوما ..

وهناك تتراجع سلطة القهر والتهديد والفيتو ! حتى أمريكا لم تملك أن تتخذ قرار ( الفيتو ) على خسارتها وخروجها  صفر اليدين من النهائيات !!

أما في مونديالنا فتغيب القوانين وتتداخل الأشياء وتنقلب المعايير ، في مباراة الطفل والطائرة يقتل الطفل مرتين ، مرة لحظة الموت بانتزاع الحياة منه ، والأخرى بعد الموت عندما يدان بالتصدي للصاروخ المنطلق ( خطأ ) من الطائرة وتبرأ  الطائرة ويكرم الطيار ومن أرسل الطيار بجائزة نوبل للسلام !!

في مونديالنا لم تغب العدالة والقيم والأخلاق والقوانين فحسب ، بل غاب كل شيء عنه حتى المشاهدون غابوا عنه ، رغم انه متاح للجميع ( دون تشفير ) !! لأن مناظر الدم والأشلاء تؤذي العالم  ، وخاصة العربي منه !! وقد خرجوا بعد يوم عمل شاق يبحثون عن محفل يستمتعون فيه وليس عن مأتم يمارسون فيه هواية ( اللطم ) المفضلة خاصة في أوقات المآسي، ولذا فقد نصبوا في ساحة كل حي وحارة( شاشة عملاقة  حساسة ) تقشعر وتضطرب من مناظر الدماء والدموع والأشلاء ، ولهذا السبب ولفرط حساسيتها ونخوتها العربية  وفيض مشاعرها الإنسانية  لم تشاهد ( هدى غالية ) وعائلتها وأطفال غزة الممزقين بفعل القذائف ،  واعذروها  !! فهي- فقط- متخصصة  في  نقل مباريات كرة القدم وبعض المهرجانات الغنائية التي يرتعب المحتلون من صواريخها وقذائفها المبتكرة من طراز ( آه ونص ) و ( يا طبطب يا دلع  ) والعابر للقارات ( بوس الواوا ) !!.

بقي أن نقول أن مونديال ألمانيا يسمي كل شيء باسمه ، فيكرم الفريق الذي يستحق التكريم ، وينصب على عرش الكرة أفضل الفرق أداء ولمدة أربع سنوات ، أما في مونديالنا فيصبح الضحية جلادا ومجرما بحق الإنسانية ، ويجب تغيير مناهجه التي تجعله لا يتقبل القتل والذل ،  ويصبح القاتل أحق الناس بجائزة نوبل للسلام !!

وجملة القول أن مباريات مونديال ألمانيا هي مجرد سباق رياضي تجاري تجني الدول والفرق واللاعبون والشركات الراعية منه الشيء الكثير ،ويسدل الستار على البطولة وتنتهي اللقاءات ويجني المشاهدون متعة ينتظرونها مرة كل أربع سنوات ، ليشاهدوا صراعا كرويا جديدا ينال الكأس فيها من هو أحق بها ...

وعندنا حيث يغيب كل شيء ، يحضر أركان المباراة ، الظلم والبطش من جانب والإيمان والثبات من جانب آخر ، منطق القوة الباطلة وقوة المنطق مدعوما بالحق ، في مباراة لا زمان لها ولا عدد للاعبيها ولا تحديد لأدواتها ،الخصم فيها هو الحكم ، حيث لا قوانين يستند إليها سوى قانون القوة الباطشة ،  وتمتد المواجهة سجالا ما بين جولة هنا وأخرى هناك ، وكما لا بد لكل مباراة من نهاية ، فلا بد لهذا اللقاء من نهاية ، وكما يتوج كل فائز بكأس بعد عرق ومشقة ومعاناة  سيتوج الفائز من مونديال الدم  في غزة والضفة بكأس غالية  ، هي - كأس التحرير - وميزتها أنها كأس أبدية  لا تسترجع  - مثل كأس المونديال – لأنها تمثل عزة الأمة وكرامتها .

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع