عملية أريحا وسلطة محمود عباس: جريمة مَن التي لا تُغتفر؟
2006/03/17
صبحي
حديدي
في وصف هجوم الجيش الإسرائيلي علي سجن أريحا، واقتحامه بقوّة الدبابة
والجرّافة، وتهديم جدرانه وأسواره ومهاجعه، ثمّ اعتقال الأمين العام لـ
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورفاقه، وقبل هذا ممارسة ألوان من الإهانة
ضدّ حراس السجن والسجناء الفلسطينيين (لم يكن إخراجهم عراة إلا المشهد
العلني، أو الإعلاني ربما، وما خفي كان أعظم!)... في وصف هذا كلّه قال
الرئيس الفلسطيني محمود عباس: جريمة لا يمكن أن تغتفر ، و إهانة
للفلسطينيين ، و خرق فاضح للاتفاقات . لكنه، وهو العائد من زيارة أوروبية
انقطعت بفعل الحدث، أعاد التشديد علي أنّ السلطة الوطنية الفلسطينية سوف
تواصل التمسك بالرعاية الدولية للاتفاقات الموقعة مع الدولة العبرية، بل
أضاف لا فضّ فوه: لن نتراجع، وسنواصل العمل !
والحال أنّ تمسّك السلطة بالاتفاقات لا يقدّم ولا يؤخرّ كما يعرف عباس
نفسه، ربما أفضل ممّا يحدس ابناء الشعب الفلسطيني الذي يعانون الأمرّين
جرّاء تلك الاتفاقات، موقعة كانت في العلن وحدائق البيت الابيض وطابا
والعقبة، أم مبرمة تحت جنح الظلام؛ خاضعة لرعاية الكبارفي واشنطن ولندن
وموسكو وستراسبورغ، أم متفق عليها مع الصغار وحدهم. الجانب الإسرائيلي هو
الذي يخرق ـ أو بالأحري: ينسف ويقوّض ويهدم وينقض... ـ أيّ وكلّ اتفاق
حينما يشاء، أينما اقتضت الضرورة، وكيفما كانت الوسائل. هذا بافتراض أنّ
أياً من الاتفاقات تلك جري تطبيقه علي أي نحو ملموس، ليس كليّاً فحسب بل
أيضاً في الحدّ الشكلي الأدني.
ثمّ ما الذي يعنيه عباس بهذه العبارة العجيبة: جريمة لا يمكن أن تغتفر ؟
هل يعقل انّ بعض جرائم الاحتلال، أيّ احتلال في الواقع، وهذا الاحتلال
البربري الهمجي تحديداً، يمكن أن تُغتفر؟ ماذا مثلاً، إلا إذا كان القصد
جريمة من نوع سحب بطاقة التجوّل الممتازة، الـ
VIP،
من أحد كبار أفراد السلطة الفلسطينية، بحيث تصبح سهراته وحلّه وترحاله
مقيّدة مشروطة؟ وما الذي يمكن أن لا يكون إهانة للفلسطينيين في سلوك
الاحتلال، كلّ سلوك الاحتلال؟ وما الذي التزمت به الدولة العبرية من قبل،
في العهود كافة بعد كتابة مسوّدات أوسلو، وقبل سنوات طويلة من صعود أرييل
شارون إلي السدّة الاعلي في هرم القرار الإسرائيلي، لكي يصبح الدوس علي
البروتوكول الخاص بسجن أحمد سعدات ورفاقه بمثابة خرق فاضح للاتفاقات ؟
وهل ثمة خرق فاضح ، وآخر غير فاضح: مهذّب، مؤدّب، محترم؟
ومن الإنصاف، والواقعية البسيطة كذلك، التفكير بأنّ قسطاً كبيراً من
الإهانة التي يقول عباس إنها لحقت بالفلسطينيين، إنما لحق به هو أوّلاً
وقبل أيّ من أبناء فلسطين، ولحق به شخصياً أوّلاً، وفي موقعه الإعتباري
ثانياً أو بالتكافل والتضامن! ولا ندري ما ستتكشف عن الأيام من أسرار حول
عملية أريحا، وما إذا كان توقيت شروع عباس في جولته الأوروبية يتزامن ـ
ونقصد علي النحو العملياتي الذي يتضمن تعطيل أواليات القرار العسكري
والأمني الفلسطيني في المقام الأوّل ـ مع موعد العملية. ويستوي في هذا أن
يكون صاحب الخديعة في واشنطن أو لندن أو ستراسبورغ أو تل أبيب أو رام
الله، ما دامت العملية تمّت هكذا: خلال واحدة من أسفار عباس، الذي لا
يسافر هذه الأيام كثيراً بالنظر إلي أنّ عواصم القرار توافقت علي وضع
السلطة الوطنية الفلسطينية في الثلاجة، ريثما تتضح الأمور علي جبهة تشكيل
الوزارة الجديدة وتولّي حماس مقاليد الأمور.
الأرجح، إذاً، أنّ شهر العسل بين عباس وعواصم القرار الدولي، واشنطن
ولندن خصوصاً، قد ولّي ومضي، ليس إلي غير
رجعة ربما (إذْ لا يمكن الاستغناء عن دور الرجل في
المستقبل، مثلما لم يكن ممكناً الاستغناء عنه في الماضي)، بل حتي إشعار
آخر مرهون مباشرة بما ستفعل حماس ، أو... بما لن تفعل! يداه أوكفتا، هو
وبطانته الفتحاوية، عرفاتية كانت أم عبّاسية قريعية رجوبية دحلانية،
فاسدة كانت أم انتهازية أم تسلطية استخباراتية عسكرتارية، وأفواههم نفخت
بكلّ ما يجعل فوز حماس الكاسح تحصيل حاصل، وعاقبة منطقية، وعقاباً
عادلاً. لماذا، والحال هذه، ينبغي أن تقدّم واشنطن ولندن طوق النجاة إلي
هذا او ذاك من رجالات عهد بائس بغيض؟ بل ما الذي يمنع واشنطن ولندن،
بالتشاور التامّ مع تل أبيب، من إسقاط القشّة التي تقصم بعير ما تبقي من
هذه السلطة، والبادئ أظلم؟
وراهنوا أنّ الزمن لن يطول، أو هو علي مرأي منّا هذه الأيام أيضاً، حين
سينقلب شهر العسل إلي شهور ممضّة من التقريع والتأنيب والملامة ضدّ عباس
وأجهزته، علي نحو لن يفاجئنا إذا شابه ما فعل الرئيس الامريكي جورج بوش
الابن مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وكان بوش، ومنذ الأسابيع
الأولي لأدائه القسم وحلوله في المكتب البيضاوي، يريد من عرفات أن يتحلّي
بمبدأ القيادة ، وأن يثبت أنه زعيم ، وأن يقتلع الإرهاب الفلسطيني من
جذوره، وأن يبذل نسبة مئة في المئة من جهود ضبط أعمال العنف ...
في المعاني الأوضح خلف هذه العبارات، كان بوش يريد من عرفات أن يتولّي
دور الشرطي الداخلي المكلّف بالحفاظ علي أمن الاحتلال الإسرائيلي؛ وأن
يقامر باحتمال نشوب حرب أهلية فلسطينية ـ فلسطينية ليس بين السلطة
الوطنية و حماس فحسب، بل أيضاً بين فتح أولي تقاوم الإحتلال و فتح ثانية
تسهر علي راحة الإحتلال؛ وأن يسلّم الإرهاب أو يسلّم السلطة كما كان يقول
رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو. وأفضل الأمثلة علي
الحال تلك التي أرادوها لعرفات هي التالية: كان نتنياهو هو الذي اضطرّ
إلي إطلاق سراح الزعيم الروحي لحركة حماس الشيخ أحمد ياسين، بناء علي ضغط
من العاهل الأردني الراحل الملك حسين، وينبغي أن يكون عرفات، زعيم
الفلسطينيين، هو الذي يعتقله أو يضعه قيد الإقامة الجبرية. في تمثيل ثانٍ
للمعادلة الثانية: سلطة الإحتلال الإسرائيلي أُجبرت علي إطلاق سراحه،
والسلطة الوطنية الفلسطينية أُجبرت علي إعادة اعتقاله، بحيث يقوم
المستعمَر بأداء مهامّ المستعمِر إذا استخدمنا مصطلحات فرانز فانون! وضمن
سياق هذا التمثيل، المفتوح إسرائيلياً كما يبدو، تمكن رئيس الوزراء
الإسرائيلي بالنيابة إيهود أولمرت من بزّ نتنياهو في تطبيق المبدأ علي
أحمد سعدات، ولوّح أنه قد يطبقه أيضاً علي
رئيس الوزراء الفلسطيني المكلف اسماعيل هنية.
الأرجح، من جانب آخر، أنّ هوامش مناورة عباس أضيق بكثير ممّا توفّر
لعرفات خلال سنوات احتجازه خلف جدران المقاطعة، وفرض العزل القسري عليه
عربياً وإقليمياً ودولياً، إنْ لم يكن بسبب خصوصية المعطيات التي كانت
انتفاضة القدس تفرضها علي المشهد، شاء الجميع أم أبوا في الواقع، فعلي
الأقلّ لأنّ سلطة عرفات الداخلية (فتحاوياً أوّلاً، ثمّ في الشارع
الفلسطيني إجمالاً، وحتي في صفوف حماس ذاتها) ظلّت متقدّمة ومرنة وعالية
المناورة، وذلك رغم أنّ شبكات الفساد والتسلّط والعربدة الأمنية
والعسكرية لم تكن أقلّ شدّة بالضرورة، بل هي بدأت من ذلك العهد أصلاً:
ذلك الغيم أتي بهذا الرشاش!
وكان عرفات يعرف، تماماً كما كان يعرف أفراد بطانته من الساسة ورجال
الأمن الفلسطينيين الفاسدين دعاة وقف الإنتفاضة مجاناً (وكان عباس وقريع
ورجوب في طليعتهم، للتذكير فقط!)، أنّ شارون لم يخرج من فتحة الدبابة
الواسعة بل من شقّ صندوق الاقتراع الضيّق، بقرار من ناخب إسرائيلي يخشي
السلام بالمعني الوجودي للخشية، ولا يأنس إلا لجنرال سفّاح كي يترجم تلك
الخشية إلي ظفر ومنعة وهيبة. ولهذا، كان عرفات يعرف أنّ شارون ـ بمساندة،
صامتة أو حتي صاخبة، من بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير ـ لن
يقدّم له شيئاً من مظاهر السلام حتي تلك الرمزية، المخجلة، التافهة،
القابلة في أية لحظة للقذف في البحر: طائرات هليكوبتر جديدة؟ تنفيذ
توصيات لجنة ميتشل؟ مدرّج مطار جديد؟ زيارة البيت الأبيض؟ صفحة باهتة، أو
سوداء ربما، في سجلات التاريخ؟
وما الذي كان سيتغيّر حقاً، أو سوف يتغيّر اليوم أيضاً، لو استجابت
السلطة الوطنية الفلسطينية لمطالب شارون التعجيزية، التي هي مطالب أولمرت
ـ بوش ـ بلير في حساب الراهن بعد فوز حماس؟ وكيف ستبقي هذه السلطة وطنية
حقاً، وفلسطينية بأيّ معني، إذا توجّب عليها تنفيذ التالي: حملة اعتقالات
فعلية، شاملة، ساحقة، وماحقة؛ تجريد جميع المنظمات الإرهابية من أسلحتها،
والدولة العبرية هي وحدها التي تعرّف الإرهاب والإرهابيين؛ جمع هذه
الأسلحة وتدميرها بمعرفة المخابرات الإسرائيلية، أو عن طريق وسطاء
أمريكيين؛ التعهد بعدم تكرار العمليات الإنتحارية، وضمان ذلك عن طريق خطة
أمنية دائمة يكون الضباط الإسرائيليون جزءاً لا يتجزأ من هيكلية تنفيذها؛
إنهاء كلّ أشكال التحريض ضدّ الدولة العبرية، في المساجد ووسائل الإعلام
كما في الكتب
المدرسية وشاشات التلفزة المحلية والعربية الدولية؟
ولماذا تبدو السلطة الوطنية وكأنها، وحدها تقريباً، الطرف الذي ما يزال
مؤمناً باتفاقات أوسلو، وما يزال مستعداً للمقامرة بكلّ شيء، بما في ذلك
الوحدة الوطنية الفلسطينية، في سبيل الإبقاء علي تلك الجثة الهامدة
معروضة في عراء من الخراب والدماء؟ ألا يبدو واضحاً اليوم ـ وضوح الدماء
والعربدة البربرية، في أريحا اليوم، وقبلها بالأمس في غزة وخان يونس
وجنين... ـ أنّ أولمرت ليس سوي الظلّ الذي يعكس قامة شارون وينتضي سيفه؟
المعلّق يوسي فيرتر، في هآرتس الإسرائيلية، يكتب أمس: الجمهور في إسرائيل
يحبّ الزعماء الذين يُظهرون اعتدالاً دبلوماسياً وخشونة عسكرية، والذين
يعيدون بعض الأرض للعرب لكي يقتلوا العرب. شارون اعتمد هذه القاعدة طيلة
سنواته الخمس في الحكم، ووريثه إيهود أولمرت سوف يقتفي الدرب ذاته . ألم
يكن شارون هو ذلك الجنرال الذي جاء خلفاً لجنرال آخر، وأنّ سلفه إيهود
باراك لم يكن أقلّ سوءاً من بنيامين نتنياهو، وهذا الأخير لم يكن أكثر
شراسة من شمعون بيريس (جزّار قانا) أو إسحق رابين (كاسر عظام الفلسطينيين
أثناء انتفاضة 1987)؟
ومن الخير للرئيس الفلسطيني أن يضيف هذه الإهانة الجديدة، اقتحام سجن
أريحا، إلي إهانات سابقات طعنت مباشرة في مصداقية سلطته، بل في معني
المنصب الذي يتقلّده أساساً. ولعلّ أحد ناصحيه يعيده إلي جريمة اغتيال
عبد العزيز الرنتيسي أواسط نيسان (إبريل 2004)، واغتيال الشيخ أحمد ياسين
قبله بشهر واحد فقط، حين لاح أنّ شارون زجّ حكومة عباس في موقف بالغ
العجز أمام واشنطن، وبالغ التفريط أمام الشارع الفلسطيني، وبالغ الذيلية
أمام حماس . وكان شارون يذكّر، في المقام الثاني بأنه ما من هدنة أمريكية
ـ فلسطينية، وما من ثمار عراقية ـ عربية، علي حساب الدولة العبرية؛ وكان
يعلن، عن طريق إراقة الدماء فقط، تفخيخ التخطيط الأمريكي لجداول تطبيق
خريطة الطريق عن طريق دفع الإدارة إلي الوقوف مجدداً مع إسرائيل، غالبة
هذه الأخيرة أم مغلوبة.
ومن الخير أن لا ينساق عباس إلي بلاغة الحديث عن جريمة لا تغتفر ، ربما
استبطاناً للقول المأثور المنسوب إلي النهضوي الكبير أديب اسحق، هو الذي
يعرف أن قتل الشعب الفلسطيني الآمن بأسره يظلّ، في عداد واشنطن ولندن وتل
أبيب... مسألة فيها نظر!
|