تفاصيل ما يجري داخل المطبخ الفلسطيني
الاحد 3 تشرين الأول 2004
بقلم شاكر الجوهري
تدفع ضغوط المجلس التشريعي على السلطة الوطنية الفلسطينية باتجاه اقالة حكومة أحمد قريع (أبو علاء) بالتزامن مع التصعيد العسكري الإسرائيلي متمثلا في الإقتحامات المتتالية لقطاع غزة، فضلا عن اعادة احتلال كامل الضفة الغربية، على نحو يدعو للتساؤل: وماذا إن استقالت حكومة قريع..؟ وما هي الخيارات التي يملكها ياسر عرفات في هذه الحالة..؟
المراقبون المتابعون للشأن الفلسطيني يؤكدون أن خيارات عرفات بالغة المحدودية في حالة اقالة أو استقالة حكومة قريع، كما أن هذه الإقالة أو الإستقالة قد تدفع باتجاه خطوة أكثر جذرية تتمثل في اعلان خلو منصب الرئاسة، أي الإطاحة بالرئيس عرفات نفسه، الذي يرفض ويعرقل بإصرار أي عملية اصلاح للسلطة الفلسطينية، ويواصل الإمعان في سياسة الفساد والإفساد.
لم يكن مفاجئا تحول روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني من معسكر عرفات إلى معسكر الإصلاح، دون أن يقطع علاقته بالرئيس، بعد أن حظي بدعم عرفات طوال الفترة الماضية، وعلى نحو أمن له الوصول لرئاسة المجلس التشريعي الفلسطيني، بعد انتهاء ولاية رفيق النتشة، الذي أكمل بدوره ولاية أحمد قريع، بعد أن عهد للأخير بتشكيل حكومة خلفت حكومة محمود عباس.
ففتوح يواصل الضغط على عرفات باتجاه تمرير جملة قوانين مفصلية احالها المجلس التشريعي للرئيس الذي يرفض المصادقة عليها، وهو الذي ظل يرفض المصادقة على القانون الأساسي الفلسطيني قرابة الخمس سنوات، وإلى أن اضطر لفعل ذلك تحت وطأة الضغوط الأميركية التي التقت مع الضغوط الداخلية الفلسطينية.
وتؤكد مصادر "العرب" الوثيقة الإطلاع أن فتوح حين اصطحب العقيد محمد دحلان للقاء المصالحة الشهير مع عرفات، عقب تفجر احداث غزة في تموز/يوليو الماضي، بادر إلى محاولة توظيف تلك الأحداث، ومناسبة المصالحة، التي عمل عرابا لها، وبالتنسيق مع القيادة المصرية، لصالح تمرير القوانين التي يعطلها عرفات. إذ أن اول ما تحدث به فتوح في ذلك اللقاء هو الطلب من عرفات توقيع القوانين المعطلة، فكان أن طلب عرفات الإستماع لوجهة نظر دحلان، الذي تحدث عن ضرورة تشكيل حكومة جديدة يرفع فيها تمثيل قطاع غزة إلى عشرة وزراء. وبالطبع، لم ينفذ شيء من هذا، إذ تولى عرفات تمييع الأمور بطريقته الخاصة، ثم وافق عرفات على قرار اللجنة المركزية لحركة "فتح" تشكيل لجنة تحقيق مع دحلان، أصر على أن تكون برئاسته، من أجل أن يقايض دحلان: الصمت مقابل عدم تفعيل اللجنة، وهذا ما هو حادث حتى الآن.
وتضيف المصادر أن عرفات لا يستطيع أن يفعّل لجنة التحقيق مع دحلان لسبب غاية في البساطة، ذاك هو أن دحلان سيقول امام اللجنة أكثر مما قاله عن عرفات في لقاءات الكوادر، أو في تصريحات صحفية. وأقل ما سيثبته دحلان على عرفات في وثائق لجنة التحقيق، هو أن كل ما يدان به دحلان من مسلكيات متعددة، إنما كان تنفيذا منه لأوامر عرفات المباشرة إليه..!
وتؤكد المصادر أن دحلان سيتحدث في حال مثوله امام لجنة التحقيق بالتفصيل، بدلاً من تحدثه العلني أو شبه العلني حتى الآن بالخطوط العريضة.
فتوح داعية اصلاح
لكن فتوح الذي يملك طموحاً وبرنامجاً أكبر من طموح وبرنامج دحلان.. بل هو عمل على توظيف تحركات دحلان لصالح برنامجه، يعمل الآن على توظيف اعتراضات وضغوط أعضاء المجلس التشريعي من أجل انجاز هذا البرنامج.
وها هو فتوح يؤكد في آخر تصريحات له أن المجلس التشريعي لن يقف مكتوف الأيدي امام احجام حكومة قريع عن القيام بإصلاحات، مشيرا إلى أن السلطة التنفيذية (أي الرئيس عرفات + حكومة قريع) لم تستجب لمطالب المجلس التشريعي بإجراء اصلاحات خلال الشهر الماضي، الذي علق المجلس اجتماعاته خلاله اعتراضا على عدم مصادقة عرفات على القوانين التي احالها المجلس إليه، وعلى عدم احالة ملفات فساد تشمل بعض المسؤولين، إلى النائب العام، وخاصة ملف فساد سلطة النقد الفلسطيني، المتعلق اساسا بقضية بنك فلسطين الدولي، وملف تسريب الإسمنت المصري للجدار الإسرائيلي.
فتوح يتسلح في هذه المرة بالقانون الأساسي الفلسطيني الذي يوجب عقد جلسة لمناقشة حجب الثقة عن الحكومة إذا طلب أكثر من عشرة نواب ذلك، وهو تلقى طلبا بهذا الخصوص يحمل تواقيع اربعة عشر نائبا معظمهم من حركة "فتح". وهذا يعني أن الغالبية الفتحاوية قد تصوت مع اقالة حكومة قريع، وذلك إلى جانب نواب معارضين آخرين.
وتشير المصادر إلى أن فتح سجلات تسجيل الناخبين الفلسطينيين تمهيداً لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، وتجفيف مصادر المال لدى عرفات، يدفعان اعضاء المجلس التشريعي لاتخاذ مواقف شعبية تضمن فوزهم بعضوية ثانية في المجلس التشريعي. وليس هناك ما هو أكثر شعبية الآن من مقاومة فساد السلطة. ويركز عدد من النواب على أن اخفاق حكومة قريع بالقيام بواجباتها وعدم تنفيذها أي بند من بنود برنامجها الوزاري الذي نالت الثقة على اساسه، يعود إلى مصادرة عرفات لصلاحيات هذه الحكومة.
باختصار، المناخات الفلسطينية المتداخلة مع المناخات الدولية تفسح المجال امام امكانية اسقاط المجلس التشريعي لحكومة قريع، ما دام هذا الإسقاط يتم على قاعدة العمل من أجل الإصلاح، وزيادة الضغوط على رأس الفساد ياسر عرفات.
بديل قريع
من هو المرشح الأوفر حظاً لتشكيل حكومة فلسطينية جديدة في هذه الحالة..؟
مصادر "العرب" تؤكد أن عرفات لن يعجز عن اخراج "ارنب" آخر من طرف كمه، كما يفعل الحاوي..!
وتستبعد هذه المصادر أن يقبل المجلس التشريعي اعادة تكليف قريع بتشكيل حكومة جديدة، حتى إن قبل قريع بذلك. وأبو مازن الذي يواصل رفض مصالحة عرفات حتى الآن، لا يمكن أن يكون موضع تفكير الرئيس. كما أنه في ظل تنامي قوة اللجنة المركزية لحركة "فتح"، جراء تآكل قوة الرئيس، فإنه ما عاد بإمكان عرفات أن يفرض عليها واحداً من الخيارات التي كان يلوح بها سابقا مثل الدكتور نبيل شعث، الذي سبق للمجلس التشريعي أن ادانه بالفساد، وكذلك ياسر عبدربه، ومنيب المصري.
أما هاني الحسن الذي طرح اسمه يوما في حالة قرر عرفات رفع سقف موقفه السياسي دون أن يقطع شعرة معاوية مع اميركا واسرائيل، فإنه لم يعد مطروحاً.. ذلك أن تراجع قوة عرفات شجع، بل دفع الحسن إلى توجيه انتقادات علنية له في مجالسه الخاصة.
من يمكن أن يشكل الحكومة الفلسطينية المقبلة إذا..؟ مصادر فلسطينية موثوقة تؤكد لـ"العرب" أن المسألة قد تجاوزت التخمين والإجتهاد إلى حديث شبه علني داخل دوائر مغلقة يتناول اسم رفيق النتشة (أبو شاكر(..!
هل يعقل ذلك..؟!
تقول المصادر إن النتشة الذي فتح ملفات التحقيق في قضايا فساد خلال الثلاثة أشهر التي تولى خلالها رئاسة المجلس التشريعي الفلسطيني، ولوح بإمكانية فتح ملف التحويلات المالية لزوجة الرئيس سهى عرفات، قد يكون الآن الرجل الأنسب الذي من شأنه اقناع الرأي العام الفلسطيني والمجتمع الدولي بجدية عرفات في الإصلاح.
فهذا المكافح العنيد للفساد طوال عمره، والخصم القوي لعرفات على قاعدة مكافحته للفساد، هو فقط من يمكن أن يوحي للرأي العام بأن تحولا جديا على موقف عرفات من مكافحة الفساد قد حدث.
ثم إن النتشة يحظى باحترام جميع اطراف حركة "فتح" نظرا لاستقامته المشهودة. ومع أن جذوره السياسية تعود إلى جماعة الإخوان المسلمين قبل التحاقه المبكر جداً بحركة "فتح"، إلا أن يلتقي سياسيا مع خط الإعتدال دون تفريط.
شروط أبو شاكر
ولكن هل يقبل أبو شاكر..؟
مصادر مقربة من الرئيس السابق للمجلس التشريعي الفلسطيني تقول إن أبو شاكر حين واجهته بهذه التحليلات والتوقعات، لم يفاجأ بها. بل إنه قال صراحة أنه استمع إلى توقعات في هذا الشأن، وإلى احاديث صدرت بشأنه عن عرفات نفسه، دون أن يفاتحه بذاك.
ويضيف النتشة أنه ليس طامحا لتولي منصب رئيس الوزراء، لكنه مستعد لقبوله في حال منحه صلاحيات حقيقية تسمح له أن ينفذ برنامجه الفعّال للإصلاح. ويزيد أبو شاكر أن عرفات لم يعمل على عرقلة عمله حين كان يقود وزارة العمل بعقلية واجراءات اصلاحية، وإن كان يقر أن رئاسة الوزراء ليست مثل وزارة العمل.
وتبدي المصادر أن أبو شاكر، وهو عضو سابق في اللجنة المركزية لحركة "فتح"، مؤهل للحصول على ثقة اللجنة، التي اخرج منها في المؤتمر العام للحركة الذي انعقد في تونس سنة 1988، جراء ضغط شديد، بلغ حد التزوير الذي تم بعلم ودفع من عرفات، للتخلص من العضو "المشاكس" في قيادة "فتح". غير أن المشكوك فيه هو أن لا يعمد عرفات إلى مصادرة صلاحيات حكومة أبو شاكر في حال تشكيلها، وشل قدرتها على العمل والإصلاح. ولذلك، في حال تشكيل النتشة لحكومة فلسطينية جديدة، أو في حال عدم تشكيله لمثل هذه الحكومة، فإن الضغوط الفلسطينية، خاصة من قبل المجلس التشريعي الفلسطيني، ستتزايد على عرفات، وربما تبلغ حد اطاحته، واعلان خلو منصب الرئاسة..!
اطاحة عرفات
لكن اطاحة عرفات لا يمكن تصور حدوثها بشكل قانوني، ذلك أن المادة 54/1 من القانون الأساسي الفلسطيني تحصر اعتبار مركز رئيس السلطة شاغراً فقط في ثلاث حالات:
أ ـ الوفاة.
ب ـ الإستقالة المقدمة إلى المجلس التشريعي إذا قبلت بأغلبية ثلثي اعضائه.
ج ـ فقد الأهلية القانونية، وذلك بناء على قرار من المحكمة الدستورية العليا وموافقة المجلس التشريعي بأغلبية ثلثي اعضائه.
ولما كان تقديم عرفات لاستقالته أمر غير وارد، كما أن ارغامه على تقديم هذه الإستقالة غير وارد طالما أنه محاصر اسرائيليا، فإنه ليس هناك من وسيلة لإعلان خلو منصب الرئاسة غير استصدار قرار من المحكمة الدستورية العليا وموافقة المجلس التشريعي عليه في عملية شبه انقلابية، أو أن يأخذ الله وداعته. وقد بلغ عرفات 75 عاما، وهو مصاب بعدة امراض خطيرة.
في هذا الخضم، تلفت المصادر إلى أن اللجنة القانونية في المجلس التشريعي الفلسطيني اجرت مؤخراً تعديلا على آلية انتخاب رئيس بديل للسلطة الفلسطينية بما يفسح المجال لروحي فتوح أن يصبح رئيساً بديلاً لعرفات.
وتنص المادة 54/2 من القانون الأساسي الفلسطيني على إنه "إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية في أي من الحالات السابقة، يتولى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتا لمدة لا تزيد عن ستين يوما تجري خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد وفقا لقانون الإنتخاب الفلسطيني".
ولا يجيز هذا النص لفتوح الترشح لرئاسة السلطة الفلسطينية، بخلاف النص المقترح في مشروع الدستور الفلسطيني المؤقت، الذي لم يقر بعد، حيث تنص المادة 128 منه على أنه "إذا شغر مركز الرئيس، أو قرر المجلس النيابي اتهامه وفقا للمادة 143، يتولى رئيس المجلس النيابي رئاسة الدولة مؤقتا لمدة لا تزيد عن ستين يوما، تجرى خلالها الإنتخابات للرئاسة وفقا لقانون الإنتخابات".
وبدورها تنص المادة 143 على أن "اتهام رئيس الدولة بالخيانة العظمى، أو بالإعتداء على الدستور، أو بإرتكاب جريمة جنائية، يكون بناء على اقتراح مقدم من ثلث مجموع اعضاء المجلس النيابي. ولا يصدر قرار الإتهام إلا إذا وافقت عليه اغلبية ثلثي مجموع اعضاء المجلس النيابي".
تعديل النصوص
أما مشروع القانون الإنتخابي الجديد الذي اعدته اللجنة القانونية في المجلس التشريعي، فإن المادة 91/4 منه تجيز لرئيس المجلس التشريعي ترشيح نفسه لمنصب الرئيس، وتوجب عليه في هذه الحالة عقد جلسة خاصة للمجلس التشريعي خلال اسبوع وتقديم استقالته لانتخاب رئيس جديد للمجلس، يفترض، وإن لم تنص المادة على ذلك، أن يتولى رئاسة السلطة، بشكل مؤقت لحين اجراء الإنتخابات.
تضيف المصادر أنه يصعب تصور انخراط روحي فتوح في عملية تهدف لإطاحة عرفات، غير أنه يصعب في المقابل تصور أن فتوح لا يعمل من أجل خلافة عرفات في حالة الإطاحة به، أو وفاته.
ولذلك، فإن فتوح يؤيد تعديل قانون الإنتخابات، على النحو المشار إليه، والذي يتماشى مع النص المقترح للدستور الفلسطيني المؤقت.. ويوطد علاقاته مع محمد دحلان باعتباره يمثل قوة عسكرية لا يستهان بها في قطاع غزة.. ويحرص على توطيد علاقاته مع رجال القطاع، بمن فيهم سليم الزعنون رئيس المجلس الوطني الفلسطيني.. ويوطد علاقاته مع دولتي الجوار المؤثرتين على المعادلة الفلسطينية (الأردن ومصر).. ويحافظ على علاقة معقولة مع غالبية أعضاء اللجنة المركزية لحركة "فتح"، ويتبنى الخط الإصلاحي داخل المجلس التشريعي الفلسطيني، بما يرضي القوى الإقليمية والدولية المؤثرة على المعادلة الفلسطينية (اميركا واسرائيل(.
وقد يصب التصعيد المتوقع في الموقف الأميركي من عرفات، في حال امتنع عن تحقيق اصلاحات حقيقية خلال شهر تشرين اول/اكتوبر الجاري، وقبل اجراء انتخابات الرئاسة الأميركية في الأول من الشعر المقبل، في اتجاه تسريع اطاة عرفات، الذي يجمع جورح بوش، وجون كيري على موقف موحد حياله، ويحال الحل الفلسطيني ككل.
وفي المحصلة، فإن المشهد الفلسطيني يبين أن رفيق النتشة يتقدم مرحليا باتجاه منصب رئيس الوزراء، فيما يتقدم روحي فتوح باتجاه منصب الرئيس.