الانهزاميون .. صالح القلاب مثالاً ..
بقلم : الاستاذ محمد أبو عزة*
أظنّ أن اسم "صالح القلاب" لا يحتاج إلى تعريف ، فهو أحد كتّاب جريدة "الشرق الأوسط" واسعة الانتشار ، إلى جانب الدوريات الأردنية "الرأي الأردنية" و بعض الفضائيات ..
ثم إنه "صاحب المعالي" وزير الإعلام الأردني الأسبق الذي خاض العديد من المعارك "الكلامية" . فقال الكثير الذي يثير الغثيان ، و قالوا عنه إنه "قلب مليون قلبة في مسيرته السياسية ، من عضوٍ في حزب صدام حسين إلى ملكيّ أكثر من الملكيين ، و قبض من كثيرين قبل أن يتسلّم وزارة الإعلام و بعد أن تركها .
لقد انقلب على الشام التي أتاحت له مجال التحصيل الجامعي ، و أطعمته من خبز أولادها ، من دون منّة و لا أذى ، و قد قيل في هذا المجال : "لعن الله من شرب من بئرٍ و ألقى فيه حجراً" .
ثم عاد و انقلب على "صدّام" بعد أن تقلّب على فرشة الدنانير العراقية ، و تمختر بالسيارة الفارهة و الرصيد المحرز ، تحوّل إلى لعّانٍ شتّام لـ "أم المعارك" و أجداد من أوقد نارها بعد أن كان من حملة مباخرها ..
و حكايته على كلّ حال مثل حكايات "الضبع" و "الحية" في ليالي بادية بني حسن ، تبدأ و لا تنتهي ..
بين يدي المقالة الأخيرة لـ "القلاب" التي نشرتها "جريدة الشرق الأوسط" في عددها الصادر في السادس من تشرين الأول "أكتوبر" الجاري . و لأن ناقل الكفر ليس بكافر – كما يُقال - فإنني أنقل فقراتٍ منها ، ليس على طريقة "لا تقربوا الصلاة" ، فالقلاب وضع عنواناً لمقالته هكذا "أربعة أعوام كانت كارثة للفلسطينيين و دماراً لقضيتهم" ..
إن السيد "القلاب" وضع اسمه في رأس الصفحة ، لظنّنا أن الكاتب صهيوني أو أمريكي من المحافظين الجدد ، أو من المتحدّرين من عائلة بوش التي كشفت الوثائق أن رأسها كان متعاملاً مع هتلر .
"إن صواريخ القسّام - عند "القلاب" - هي "صواريخ كرتونية" لا فائدة منها إلا تعزيز ما تتذرّع به "إسرائيل" لتبرير الجرائم البشعة التي ترتكبها في غزة و الأراضي الفلسطينية ، و الصراع مع عدوّ تقوده هذه الحكومة في ظلّ الموازين القائمة يجب أن يُدار على أساس "الممكن و المتاح" ، و "إحلال العقل محل السيف" ، و انتفاضة الأقصى لو نظرنا إليها من زاوية الربح و الخسارة بالنسبة للفلسطينيين و مشروعهم الوطني و مصالحهم العليا ، فإننا سنجد أنها كانت كارثة و مصيبة ، بل و أمّ المصائب!!" .
أما الفصائل الفلسطينية المقاومة فهي "مصابة بالحول السياسي" لأنها "بادرت إلى عسكرة الانتفاضة و كثّفت العمليات "الانتحارية" – هكذا ينعت العمليات الاستشهادية – و غبار ما جرى في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر "أيلول" عام 2001 كان يغطي الكرة الأرضية" .
و بأكبر قدرٍ من الرقاعة يمضي "القلاب" فيقول بالحرف : "إننا إذ نتطلّع إلى الخلف نجد أن النقيضين و العدوّين اللدودين ، اليمين (الإسرائيلي) بقيادة شارون و حكومته الليكودية ، و المعارضة الفلسطينية المتمثّلة بحركة حماس و من يدور في فلكها من الفصائل الأخرى ، قد التقيا عند نقطة واحدة هي إضعاف القيادة الفلسطينية المتمثّلة بعرفات و عزلها ، و ذبح السلام .. كان المفترض أن تبادر حركة حماس و على الفور إلى إيقاف العمليات "الانتحارية" بمجرّد وقوع كارثة الحادي عشر من سبتمبر ، لأن عسكرة الانتفاضة لم تعدْ جائزة بعد أن وقع ما وقع ، و لا تذهب بعيداً في النهج الذي انتهجته" !! .
و يصل الأمر بوزير الإعلام الأردني الأسبق إلى تنصيب نفسه متحدّثاً باسم الشعب الفلسطيني فيقول : "غير صحيح أن الشعب الفلسطيني يؤيّد العمليات "الانتحارية" و يساند "تظاهرة" صواريخ القسّام التي لم تنجِزْ سوى وضع كلّ المبرّرات بين يدي شارون ليقوم بكلّ ما قام به" .
و بادئ ذي بدء نقول للقلاب و أتباع هذا النهج الانهزاميّ : إن التاريخ لا يتوقّف عند المناسبات ليحتفي بها ، و لكن الناس هم الذين يتوقّفون ، ليحتفلوا أو ليراجعوا ، أما التاريخ فيمضي ، فقيراً أو غنياً، صاخباً أو هادئاً ، مسرعاً أو متباطئاً .. يتّحد بإرادة صانعيه ، ثم ينسلخ عنها فيبدو شخصية معنوية مستقلة ، يراجعها الآخرون كما لو كانت بالفعل منفصلة عنهم ..
و في مراحل بناء الكيان ، تتداخل مراحل التاريخ أو تتقاطع ، و تقف على رأس مرحلة لتلقي نظرة على الماضي ، فإذا بالماضي قريبٌ حتى اليوم . و هكذا هو الأمر حين نقف بين يدي الذكرى الرابعة لانتفاضة الأقصى التي لا تزال تكتب تاريخها حرفاً حرفاً ، و كلمة كلمة ، و تنسجه أو تصنعه بالإرادة الواعية ، الإرادة المختنقة قهراً ، بالدم و العرق و الجهد و الصبر في كلّ الأحيان ، و ليس بالحبر الأخضر أو الأزرق الذي يكتب به بعض المسؤولين الحاليين و السابقيين من عرب الصمت الذين يعجزون عن رؤية النقطة في "القرار" و "الفرار" ..
انتفاضة الأقصى انجازاتها أكبر من عمرها و أكبر مما توفّر لها من معطيات و إمكانات . لقد أنجزت خلال سنواتها الأربع أموراً كثيرة ، أبرزها أنها وحّدت الشعب الفلسطيني في الداخل و الخارج ، وحّدت المشاعر ، و وحّدت الموقف ، و وحّدت الأداء ، و استوعبت جهد الجميع في المعركة الواحدة : جهد الأهل في الأراضي المحتلة عام 1948 إلى جانب جهد الأهل في الضفة و القطاع و المنافي الإجبارية ، و وحّدت الشعب الفلسطيني و فصائله بعد أن مزّقتهم "أوسلو" و برامج التسوية ، و عزّزت الأمل الفلسطيني بالنصر و التحرير ، و ضخّت دفقة أمل كبيرة بقدرة الشعب الأعزل على إنجاز آماله الوطنية في التخلّص من الاحتلال و إقامة الدولة الوطنية الفلسطينية ، و إنه ليس هناك "حتمية" بل هناك "إرادة" و بقدر ما تكون هذه الإرادة عازمة على التغيير ، و مصرّة عليه ، و قادرة على مقاومة ما تقدّمه المعطيات المتحدّيات ، بقدر ما سيكون المستقبل ، لأن الإرادة تصنع المستحيل.
و لقد تمكّن شعبنا بإمكاناته البسيطة أن يقف ندّاً للكيان الصهيوني ، و أن يصنع حالةً من توازن الرعب و الردع بعد أن استنزف العدو على كافة الصعد ، على صعيد السياحة و الاقتصاد و الاستيطان و الهجرة و الاستثمارات الأجنبية و الأمن .. و هذه الأخيرة حساسة جداً بالنسبة للكيان الصهيوني ، لأنها تجبره على إعادة حساباته بحيث يجبر على الرحيل حينما لا يتمكّن من الجمع بين الاحتلال و الأمن ، أو حين تكون كلفة الاحتلال أكثر مما يحتمل .
لقد خسر الاقتصاد الصهيوني في السنوات الأربع أكثر من عشرين أو ثلاثين ملياراً من الدولارات ، و فقد الفرد الصهيوني الشعور بالأمن و الأمان ، فبات غير آمنٍ عند ركوب الحافلات و ارتياد المطاعم و المقاهي و النوادي و المصانع و المستوطنات ..
و هذا الضغط هو الذي يجبر قادة العدو على إعادة الحسابات و على التفكير جدّياً بالهروب من قطاع غزة و ليس فكّ الارتباط معها ..
و الانتفاضة كشفت الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني أمام العالم على الرغم من دخان التغطية الكثيف الذي تنشره أمريكا في العراق .. و قد اعترف صهاينة كثرٌ أنهم خسروا أخلاقياً ، و خسروا إعلامياً ..
خسروا صورتهم المزيّفة التي كانوا يسوقونها أمام الغرب كواحةٍ ديمقراطية في المنطقة كما يزعمون ، و اعترفوا بأن الانتفاضة أعادتهم نصف قرنٍ إلى الوراء ..
إذن الانتفاضة صنعت في الأعوام الأربعة الماضية أضعاف أضعاف ما صنعته التسوية خلال عشر سنوات .
و لقد تخلّى البعض عن القضية الفلسطينية حين دخل بشكلٍ مباشر في عملية التفاوض مع (إسرائيل) التي تريد أن تحقّق باسم السلام ما عجزت عن تحقيقه عبر القوة .
هاكم ما تقوله (إسرائيل) للغرب في دعايتها و إعلاناتها : "أنا دولة محاصرة بالأعداء من جميع الجهات و بالبحر من جهة أخرى ، لو أن الغرب يفتح لي بوابة لاختنقت .. هؤلاء العرب يحيطون بي و لا يتبادلون معي لا سلعاً و لا اقتصاداً و لا فكراً و لا بشراً .. أنا مظلومة ، و أنا أطلب السلام ، و أطلب أن يعترفوا بي ، و أن يتعاملوا معي كما يتعاملون مع الصين و كندا و هولندا و قبرص .. ليتركوني أفتح سفارات ، و ليفتحوا هم سفارات ، و إذا كان لهم مشاريع اقتصادية فليتركوا لي حقّ المساهمة بمناقصاتها مثلما يتركون للدول الأخرى ، فإذا تحقّق ذلك – يقول قادة الكيان الصهيوني في دعايتهم الموجّهة للشعب الأمريكي و الشعوب الأوروبية - حينئذ تصبح مسألة الاعتراف بهذه المسألة أو تلك للشعب الفلسطيني مسألة عادية ، لأن ما يهمني أن تكون لي طمأنينة ، و لن تكون لي إلا إذا وقع الاعتراف بي بهذا الشكل!!".
و هي تصرّ على عدم قبول قيام دولة فلسطينية ، لأنها تعرف أن قيام مثل هذه الدولة سيجعل تحقيق تسرّبها الذي تحدّثت هي عنه صعباً ، بمعنى أن الدولة الفلسطينية إذا قامت على أساس الانسحاب الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة ، فإنها ستكون الدرع الواقي للوطن العربي من المشروع الذي تريد "إسرائيل" تنفيذه باسم السلام ، و إذا كانت "إسرائيل" قد استطاعت أن تجعل لها جماعات ضغطٍ في أمريكا و بريطانيا و ألمانيا ..إلخ ، و استطاعت أن تتحكّم بصورةٍ كبيرة بالشؤون المالية و شوؤن الإعلام في تلك البلدان ، فالأَوْلى و الأحرى أنها ستجد القدرة على أن يكون لها مثل هذا في العالم العربي الذي نعرِف قابليته في الوضع الراهن الرخو لمثل هذا الهدف .
و لنعترف بأن مثل هذا "اللوبي الصهيوني" موجودٌ بيننا فعلاً – من دون أن نستخدم كلمات التخوين و العمالة في نعته - ... أما موقف "القلاب" من الانتفاضة فهو قديمٌ و ما أكثر ما لام الموقف الرسمي الفلسطيني "الذي يضع قدماً في مربع أوسلو و قدماً في مربع الانتفاضة و المقاومة" .
و إن ما أساء للانتفاضة أيها "القلاب" هو أمثالك من الرسميين السابقيين و الحاليين الذين انجروا إلى المربع الأمريكي الصهيوني ، عن "علمٍ" أو عن "غباء" ، و عملوا على تقديم تنازلات و "مبادرات" أعطت للكيان الصهيوني فرصةً لالتقاط الأنفاس .
و لعلمك ، إن النذالة تبدأ من المساومات الضئيلة ، و من هزّ الرأس يبدأ الانحناء ، و من خطوة صغيرة تبدأ الطريق إلى الهاوية ، و من الغمزات و اللمزات يكون التطبيع و التطويع و التركيع و .. العدم .
إن الفرق بين "القرار" و "الفرار" هو نقطة واحدة ، فكيف بألف كلمة أو أزيد .
العقل السليم أيها القلاب يصمد في الهزّات العنيفة ، و العقل المريض هو الذي يختلّ و يهتزّ و لا يعود يميّز بين موضع "السيف" و موضع "الندى" الذي تدعو إليه في سياق "التكاذب" و "الدهلزة" التي تجيد .
إنّك لن تُقنِع أحداً بـ "الممكن" الذي تدعو له مع جوق الداعين ، و سيظلّ الشعب الفلسطيني يتمسّك بـ "المستحيل" الذي تخوّف منه ، لأنه استطاع – بدماء الاستشهاديين و تضحيات الباقين - تحويل المستحيل إلى ممكن ، بدليل الخسائر التي وقعت في صفوف المعتدين الصهاينة في المعارك الدائرة الآن في قطاع غزة .. و التي يخوضها الشعب الفلسطيني بصلابةٍ و اقتدار ، و إقدام ، في الوقت الذي يحني أمثالك قاماتهم على شكل دولاب السيارة لكي ترضى الإدارة الأمريكية ، و يرضى حكّام تل أبيب ، فيعودوا إلى الوزارة من أبواب التخادم .
* مدير تحرير مجلة "صوت العرب"