د.
عبدالستار قاسم
أستاذ جامعي - جامعة النجاح - فلسطين
sattarkassem@hotmail.com
8/13/2003
عرفات: ضحية نفسه أم
معاونيه؟
يجادل بعضهم بأن السيد عرفات قد وقع ضحية لمعاونيه
ليكونوا قيادات على الشعب الفلسطيني وذلك في أنهم قد قبلوا بالطرح
الأمريكي لصنع
قيادة جديدة للشعب الفلسطيني بتعيين رئيس وزراء ووزير أمن داخلي. على
الرغم من
معرفة المعاونين المسبقة بأن الولايات المتحدة تعمل جهارا نهارا على
استبدال عرفات
وتشجع إسرائيل على مواصلة اعتقاله في مبنى السراي في رام الله، إلا
أنهم لم يتأثروا
بما قد سلف من الخيرات العرفاتية وقبلوا بما تطرحه أمريكا دون حتى أن
يشترطوا
الإفراج عنه بصورة تامة.
ضغطت أمريكا كثيرا من أجل تعيين رئيس وزراء ووزير أمن
داخلي، وقد أقبل الشخصان المعنيان بعين قوية على القبول على الرغم من
معرفتهما
المسبقة بأن الرأي العام الفلسطيني ما يزال متشككا بالنوايا الأمريكية
ويعاني بشدة
من القمع الإسرائيلي المدعوم أمريكيا. ولم يكن إقبالهما محصورا
بشخصيهما بل وجدا
تأييدا لهما من قبل حراس قدامى جمعهم السيد عرفات حوله على مدى سنوات.
هؤلاء جميعا
ارتضوا بنوع من الحماس التغيير الأمريكي ولم يصروا على أن امتطاءهم
مناصبهم مرهون
بالإفراج عن عرفات. بل ربما فضلوا أن يبقى عرفات رهن الاحتجاز ظنا منهم
أن حريته قد
تؤدي إلى تعكير الأجواء التي يرغبون بتخييمها.
من أساسيات العمل الجماعي الناجح
أن تسود روح الفريق باستمرار حتى في أحلك الظروف الذاتية والموضوعية
لما في ذلك من
قوة على المواجهة وعلى تحقيق الإنجاز وعبور الصعاب. لكن هذا لم يتأكد
خلال التغيير
القيادي الفلسطيني، إذ بدا أن البعد الشخصي المجير لصالح الأجنبي أو
المصالح
الشخصية أقوى بكثير من روح الفريق، وأن إرادة الغير أهم بكثير من
الالتفات إلى
إرادة الأمة أو الشعب. لم يكن هناك احترام لصديق أو لرب نعمة أو لإرادة
الناس،
وبقيت إرادة القوى الخارجية هي العليا.
حتى أن عرفات لم يسلم من التجريح الشخصي
من قبل الذين رأوا فيه الماضي الذي لم يعد صالحا للسياسة الأمريكية
القائمة حاليا.
لقد تعرض عرفات عبر سنين لانتقادات شديدة من قبل معارضين من فصائل
فلسطينية ومن
مستقلين لكنه لم يتعرض للتجريح الشخصي الذي يُسمع بين الحين والآخر من
قبل الذين
دافعوا عنه بشدة قي مواجهة المنتقدين الفلسطينيين. أولئك الذين وجدوا
في المعارضة
الفلسطينية عاملا قويا في إفساد سياسات عرفات هم الذين يرون الآن أن
عرفات ليس مجرد
عقبة في طريقهم وسياساتهم وإنما أيضا من تتلبسه الطعون الشخصية التي
تحمل صفات غير
حميدة.
بالنسبة للفلسطيني الذي انتقد سياسات عرفات الداخلية والخارجية منها لم
تفاجئه مواقف عدد من الذين عاونوه عبر السنين، وكان دائما على وعي أن
الموقف الصامد
هو المفاجأة وليس التسليم بإرادة الغير. فقد تم النظر إلى أغلب معاوني
عرفات بأنهم
يفتقدون المبادرة الذاتية والاستقلالية الشخصية لحساب المصالح الخاصة
التي لم يكن
من الممكن أن تتحقق بالسهولة التي وفرها عرفات نفسه، مما يعني أن
المعيار الذي يحكم
ثبات الموقف هو استمرار تدفق الخير الخاص وليس بالضرورة المصلحة
العامة. بل أن
المصلحة العامة في هذه الحالة يتم تعريفها من قبل الشخص المعني وفق
المصلحة الخاصة،
وتقلبها محكوم بتقلب ظروف الشخص وليس ظروف الوطن والشعب.
أي أن عرفات نفسه لم
يختر معاونيه أصلا بناء على أسس سياسية سليمة وإنما اختارهم بناء على
قيمه الذاتية
التي عظّمت الولاء لشخصه على حساب كل ولاء. وقد استعمل المال ونعم
الحياة الدنيا من
أجل تطويع المعاونين ليكونوا أدوات بيده لا يخرجون عن سياسته الخاصة
التي تحكمت
بالسياسات الفلسطينية عموما. وقد حرص عبر الزمن على الاحتفاظ بالوثائق
التي تدين
هؤلاء المعاونين لكبح أي تمرد ضده أو خروج عن سياساته. هذا كان صحيحا
إلى حد بعيد
جدا بالنسبة لأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
ولأعضاء المجلسين
الوطني الفلسطيني والتشريعي وغيرهما من المجالس واللجان. لقد أغدق
الأموال بلا حساب
إلى درجة ابتلاء الشعب الفلسطيني بفساد هائل على مستوى منظمة التحرير
ومستوى السلطة
الفلسطينية. وللمراقب عبرة في المجلس التشريعي الذي كان
أغلب أعضائه يعبرون عن
مواقف وطنية خارج قاعة الاجتماع ويغيرون مواقفهم أثناء التصويت وذلك
حسب تعليمات
السيد عرفات.
تبقى الفكرة الرئيسة في هذا الموضوع أن من يعتمد على أناس مشترين
عليه أن يتوقع أنهم سيبيعون أنفسهم لغيره إذا كان السعر المدفوع أعلى.
أمريكا لا
يهمها أخلاقيات من يعمل معها من الفلسطينيين، وإنما تعمل على استقطاب
من ينفذ لها
سياستها باسم الشعب الفلسطيني لقاء مال تدفعه وجاه تصنعه. ولهذا لا
جدوى من أن يعود
عرفات إلى ملفاته القديمة ليقول للشعب الفلسطيني بعض الحقيقة عن الذي
منحه لمعاونيه
أو الذي سرقوه من الشعب بطرف قد غضه عنهم لأن الأمريكيين لا يبحثون عن
أنقياء. لقد
فر هؤلاء من القفص الذي أراده لهم إلى قفص آخر فيه متع أكثر.
سياسة الاستزلام
(تجيير
الرجال والنساء بالمال والمتع) وشراء الذمم جاءت بالويلات على الشعب
الفلسطيني وعلى عرفات نفسه. لقد دفع الشعب الفلسطيني أثمانا باهظة على
مختلف الصعد
السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والتعليمية
والعلمية تبعا
لذلك. حتى أن سمعة الفلسطيني على المستويين العربي والعالمي قد أصابها
ضرر
كبير.
لم يكن ذلك فقط ما فعله السيد عرفات ضد نفسه، بل تجاوزه ليجري وراء
أنظمة
عربية أوهمته أنها قادرة على انتزاع بعض الحقوق الفلسطينية من خلال ضغط
أمريكي على
إسرائيل. جرى وراءها سنين وهو يمني نفسه بالصلاة الحرة في الأقصى
وبالدولة
الفلسطينية التي تبدو ملامحها في نهاية النفق القريبة، لكنه لم يحصد في
النهاية سوى
مساحة بسيطة في مبنى السراي لا تتوفر فيها ميزات العيش الكريم لشخص
عادي. لم يدرك
السيد عرفات أن لا مصداقية للنظام الذي لا يستطيع الوقوف على قدميه
بدون مساعدات
أمريكا المالية والاقتصادية والسياسية، وأن مثل هذا النظام لا يأمر
وإنما
يأتمر.
هذا ناهيك عن أن السيد عرفات تجاوز كل المحاذير والمحظور ليوقع اتفاقات
مع إسرائيل دون أن يلتفت إلى أبعاد دينية وتاريخية وحضارية عربية أو
إلى التطلعات
والأخلاق الصهيونية. لقد استخف كثيرا بأدوار الخبراء والعالمين في
مختلف المجالات
وظن أنه هو الذي يحيط بكل علم. قادته ظنونه إلى العبور نحو فلسطين ربما
بأمل صناعة
التاريخ فوجد التاريخ يُصنع عليه. كثر هم أبناء العرب والمسلمين الذين
حدثوه
بالنصيحة بطرق مباشرة وغير مباشرة، بالسر والعلن، شفاهة وكتابة لكنه لم
يكن ليلقي
أذنا تقدر ما يقول الآخرون. حتى أن أهل بيان العشرين الذين انتقدوا
الفساد بقوة لم
يسلموا من الأذى والتنكيل.
السيد عرفات يستوفي محصول ما زرع، وإذا كان هناك من
يقف معه فإنهم في الغالب أولئك الذين ألقوا إليه الكلم السليم ولم
يجدوا إلا
استخفافا أو أذى. وإذا كان له أن يعدل الأمر قليلا فإن الوقت ما زال
متاحا لوضع
الحقيقة أمام الشعب الفلسطيني ولإجراء تغيير جذري على القيادة
الفلسطينية وبالذات
على مستوى منظمة التحرير الفلسطينية. الخراب الذي تعرض له الشعب
الفلسطيني هائل جدا
ويتطلب إصلاحه جهودا مضنية، ومن المحتمل أن تغييرا سلسا في القيادة
سيجعل مشوار
الإصلاح والتصليح أقل طولا
|